على رغم كل التقدم حيال النظرة الإنسانية للمرأة، والتكريم الذي حظيت به قياساً بما كانت عليه في غالبية المجتمعات الشرقية والغربية، وعلى رغم صعود المرأة في السلم الاجتماعي والسياسي، حتى تبوأت أعلى المناصب، الحكومية وغيرها، وانخرطت في حركات النضال إلى جانب الرجل، وتفوقت عليه أحياناً؛ فإن المرأة لاتزال تعاني من العنف الممارس ضدها، والذي يأخذ أشكالاً متعددة.
فمن العنف الجسدي ما تتعرض فيه المرأة للضرب، وهذا ما يمثل الرجل فيه أحط حالات الإنسانية؛ لأنه يدل على فقدان الرجل المنطق الذي يُمكن أن يفرضه على الآخر من موقع الالتزام والاقتناع؛ كما أنه لا يدل على قوة الرجل، بل على ضعفه؛ لأنه «إنما يحتاج إلى الظلم الضعيف»، حتى يصل العنف - في هذا المجال ـ إلى أقصى مستوياته وأقساها عندما تتعرض المرأة للاغتصاب الذي قد ينتهي بموتها.
إلى العنف الاجتماعي ضمن ما يُطلق عليه «جرائم الشرف»، الذي يكتفي فيه المجتمع القبلي أو العائلي أو ما إلى ذلك، بالشبهة ليحكم على المرأة بالنفي أو الإعدام.إلى العُنف النفسي الذي يهدد فيه الزوج زوجته بالطلاق أو غيره، أو عندما يتركها في زواجها كالمعلقة، فلا تُعامل كزوجة، أو الذي يستخدم فيه الطلاق عنصر ابتزاز لها في أكثر من جانب، فتفقد بالتالي الاستقرار في زواجها، ما ينعكس ضرراً على نفسيّتها وتوازنها.
إلى العنف المعيشي الذي يمتنع فيه الزوج أو الأب من تحمّل مسؤولياته المادية تجاه الزوجة والأسرة، فيحرم المرأة من حقوقها في العيش الكريم، أو عندما يضغط عليها لتتنازل عن مهرها الذي يمثل ـ في المفهوم الإسلامي ـ هديّة رمزيّة عن المودّة والمحبّة الإنسانيّة، بعيداً عن الجانب التجاري.إلى «العنف التربوي» الذي تمنع معه المرأة من حقها في التعليم والترقي في ميدان التخصّص العلمي، بما يرفع من مستواها الفكري والثقافي ويفتح لها آفاق التطوّر والتطوير في ميادين الحياة؛ فتبقى في دوّامة الجهل والتخلف.
إنّنا أمام ذلك، نؤكد جملة من الأمور:
أوّلاً: يشكل الرفق منهجاً مركزيّاً في الإسلام، يكتسب الأولويّة على العنف الذي لا ينبغي أن يتحرّك إلا في حالاتٍ استثنائيّةٍ قد تقتضيها ضرورة التربية أو ردّ العدوان. قال النبيّ محمّد (ص): «إنّ الرفق لم يوضع على شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه»، وهذا المنهج عامٌّ لكلّ العلاقات الإنسانيّة، من دون فرق بين رجل وامرأة، أو صغير أو كبير.ثانياً: إنّ قوامة الرجل على المرأة لا تعني سيادة الرجل عليها، بل تعني تحميل الرجل مسئوليّة إدارة الأسرة التي لابدّ ألا يستبدّ بها، بل أن يتشارك مع الزوجة في كلّ الأمور المشتركة بينهما كزوجين.
ثالثاً: إنّ إقبال المرأة على العمل المنزلي والاضطلاع بأعبائه من خلال إنسانيّتها وعاطفتها وتضحيتها، في الوقت الذي لم يكلفها الإسلام أيّاً من ذلك، حتى فيما يختصّ بالحضانة وشئونها، واحترام عملها حتى افترض له أجراً مادّياً، لابدّ أن يدفع الرجل إلى تقدير التضحية التي تبذلها المرأة في رعايته ورعاية الأسرة، فلا يدفعه ذلك إلى التعسّف والعنف في إدارة علاقته بها.
رابعاً: لقد وضع الإسلام للعلاقة بين الرجل والمرأة في الحياة الزوجيّة والأسرة عموماً قاعدةً ثابتة، هي قاعدة «المعروف»، فقال الله تعالى في القرآن الكريم: «وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» (النساء: 19)، وقال تعالى: «فإمساكٌ بمعروفٍ أو تسريح بإحسان» (البقرة: 229)، حيث يُمكن أن تشكّل قاعدةً شرعيّةً يُمكن أن تنفتح على أكثر من حُكمٍ شرعيّ يُنهي الزواج إذا تحوّل ضدّ «المعروف».
خامساً: اعتبر الإسلام أنّ المرأة - في إطار الزواج - كائنٌ حقوقيّ مستقلّ عن الرجل من الناحية المادّية؛ فليس للرجل أن يستولي على أموالها الخاصّة، أو أن يتدخّل في تجارتها أو مصالحها التي لا تتعلّق به كزوج، أو لا تتعلّق بالأسرة التي يتحمّل مسئوليّة إدارتها.سادساً: إنّ الإسلام لم يبح للرجل أن يمارس أيّ عنف على المرأة، سواء في حقوقها الشرعية التي ينشأ الالتزام بها من خلال عقد الزواج، أو في إخراجها من المنزل، وحتّى في مثل السبّ والشتم والكلام القاسي السيّئ، ويمثّل ذلك خطيئةً يُحاسب الله عليها، ويُعاقب عليها القانون الإسلامي.
سابعاً: نعتبر أنّه إذا مارس الرجل العنف الجسديّ ضدّ المرأة، ولم تستطع الدفاع عن نفسها إلا بأن تبادل عنفه بعنف مثله، فيجوز لها ذلك من باب الدفاع عن النفس. كما أنّه إذا مارس الرجل العنف الحقوقي ضدّها، بأن منعها بعض حقوقها الزوجيّة، كالنفقة أو الجنس، فلها أن تمنعه تلقائيّاً من الحقوق التي التزمت بها من خلال العقد. ثامناً: يؤكّد الإسلام أنّه لا ولاية لأحد على المرأة إذا كانت بالغةً رشيدةً مستقلّة في إدارة شئون نفسها، فليس لأحد أن يفرض عليها زوجاً لا تريده، والعقد من دون رضاها باطلٌ لا أثر له.
تاسعاً: في ظلّ اهتمامنا بالمحافظة على الأسرة، فإنّه ينبغي للتشريعات التي تنظّم عمل المرأة أن تلحظ المواءمة بين عملها، عندما تختاره، وأعبائها المتعلّقة بالأسرة، وإنّ أيّ إخلال بهذا الأمر قد يؤدّي إلى تفكّك الأسرة، ما يعني أن المجتمع يُمارس عنفاً مضاعفاً تجاه تركيبته الاجتماعية ونسقه القيمي.
عاشراً: أكّد الإسلام على موقع المرأة إلى جانب الرجل في الإنسانيّة والعقل والمسئوليّة ونتائجها، وأسّس الحياة الزوجيّة على أساسٍ من المودّة والرحمة، ما يمنح الأسرة بُعداً إنسانيّاً يتفاعل فيه أفرادها بعيداً عن المفردات الحقوقيّة القانونيّة التي تعيش الجمود والجفاف الروحي والعاطفي؛ وهذا ما يمنح الغنى الروحي والتوازن النفسي والرقيّ الثقافي والفكري للإنسان كلّه، رجلاً كان أو امرأة، فرداً كان أو مجتمعاً.