العودة إلى علي الوردي وإعادة الوعي بأفكاره الاجتماعية

2008-08-07

صدر//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/745a31b5-5ba8-4804-9be8-925a4199ac80.jpeg للباحث العراقي الدكتور إبراهيم الحيدري كتاب جديد "علي الوردي- شخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية " عن دار الجمل - كولون، في 319 صفحة. والكتاب تخليد لذكرى العلامة علي الوردي والتعريف بكل ما يتعلق بحياته وشخصيته ومنهجه وأفكاره الاجتماعية والفلسفية. فالوردي معلم من معالم الفكر الاجتماعي النقدي ورائد من رواد الفكر التنويري في العراق، الذي ترك فراغاً واسعاً في الحركة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وخلف وراءه ثروة فكرية قيمة، كانت حصيلتها ستة عشر مجلداً ومئات الدراسات والبحوث والمقالات في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا وعلم النفس الاجتماعي. وبوفاته خسر العراق رائداً من رواد الفكر الاجتماعي في العصر الحديث.

إن الاهتمام بأفكار علي الوردي وآرائه الاجتماعية وإعادة قراءته من جديد يعتبر بمثابة إعادة الوعي بأهمية أفكاره التي شخصها في مؤلفاته النقدية الجريئة التي أشرت إلى ما يحمله عراق اليوم من محن وانقسامات وصراعات اجتماعية. ولعل العودة إلى علي الوردي من جديد تقدم لنا مؤشرات على مصداقية أفكاره وتشخيصه لما يحمله عراق اليوم من تشوهات اجتماعية، حيث كان شاهدا أمينا على قرن بكاملة.

كان علي الوردي مثقفا اجتماعيا موسوعيا جريئا ومتمردا يتحدى المنظومات الاجتماعية والثقافية القائمة من خلال توجيهه انتقادات حذرة، مبينا عوامل التخلف والركود، كاشفا عن عجز النظام الاجتماعي- السياسي، الذي قام على أعقاب قرون عديدة من الظلم والعجز والاستلاب، مستخدما أسلوبا تنويريا نقديا يعتمد على السرد المبسط والكلام السهل الممتنع، منقبا في عمق الأشياء الصغيرة والظواهر الاجتماعية المبعثرة في ثنايا المجتمع والتاريخ، التي تجاهلها الكتاب والمفكرون، أما لحساسيتها أو لعدم تقديرهم لأهميتها الاجتماعية والثقافية، لجمعها ودراستها وتحليلها والربط بين أجزائها، ليصل إلى معانيها الاجتماعية والانثروبولوجية ويكشف عن دوافعها وأهدافها القريبة والبعيدة.

إن الاهتمام بمؤلفات الوردي وتسابق الناشرين لإعادة طباعتها من جديد، في بغداد وبيروت ولندن وغيرها، يعني العودة إلى افكاره وآرائه الاجتماعية النقدية وضرورة قراءته من جديد وفق ما استجد من أحداث.

كتب الوردي عن حياة الناس الاجتماعية وعن قيمهم وعاداتهم وعصبياتهم وسلوكهم في الحياة اليومية، وعن مرجعية هذا السلوك وأصوله الاجتماعية والنفسية والمصلحية، بدون تحيز وانفعال وتعصب، كعالم اجتماعي يكتب بدون مواربة أو مبالغة وافتعال عن طبيعة الإنسان والمجتمع البشري وعن الخير والشر حين تثيرهما الظروف والمصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وعن شخصية الفرد العراقي. كما طرح ما كتبه للفحص والنقد والمساءلة. ومع ذلك فقد انتقده كثيرون وصدر ضده 16 كتابا، خمسة منها من وعاظ السلاطين، بينما لم يتعرض هو لنقد احد، وانما انتقد الظواهر الاجتماعية السيئة والمفاهيم السلبية القديمة والحديثة، ولم يلن او يعجز وهو ينتقد ويعري ويسخر من الأشياء، إلا بعد أن هدته الشيخوخة وأتعبه المرض ومسه هاجس الخوف من النظام الاستبدادي الشمولي السابق.

ومن الممكن القول إن الوردي كان شاهداً على أحداث قرن بكاملة تقريباً. فقد فتح عينيه مع بدايات الحرب العالمية الأولى، وأسدلها وما زالت حرب الخليج الثانية لم تنته بعد، وكان في كل ذلك حاضراً يستقرئ الأحداث ويحللها وينقدها بأمانة نابعة من استقلاليته الفكرية وموضوعيته العلمية، ولذلك وجد قراؤه ومريدوه وأصدقاؤه وحتى نقاده في أفكاره الاجتماعية النقدية الثاقبة، كثيراً من الأجوبة على تساؤلاتهم وتشخيصاً للكثير من مشاكلهم.

استخدم الوردي منهجاً أنثرو- سوسيولوجيا تركيبيا وتأويليا في دراساته وبحوثه، فهو أول من غاص في جذور المجتمع الخفية منقباً عن الظواهر الشاذة والغريبة وغير السوية فيه، التي ليس من السهل التعرض لها ونقدها، لشدة حساسيتها الاجتماعية والدينية والسياسية. ولذلك يمكن القول، إن الوردي هو أول من شخص وفكك وحلل الظواهر الاجتماعية المرضية التي رزح تحت ثقلها المجتمع العراقي سنيناً طويلة، وبذلك استطاع أن يضع يده على الجرح العراقي العميق ويقول: هذا هو الداء. وتعتبر مؤلفاته العديدة، وبخاصة "دراسة في طبيعة المجتمع العراقي"، وكذلك موسوعته الاجتماعية "لمحات من تاريخ العراق الحديث"التي صدرت في ثمانية مجلدات، بمثابة مراجعة جديدة وشاملة لتاريخ العراق الاجتماعي، فتح فيها باباً واسعاً للوعي به وإعادة إنتاجه من جديد، ولكن بشكل نقدي، مثلما وضع تصوراً واضحاً للتركيبة المجتمعية التي هي تشكيل لظروف وشروط تاريخية واجتماعية واقتصادية- سياسية، ما زالت تعيد إنتاج نفسها اليوم. تلك المقدمات السوسيولوجية التي بينت بوضوح عمق ما يحمله العراق اليوم من تناقضات وصراعات عميقة.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل استطاع الوردي تشخيص خصائص وسمات الشخصية العراقية وتقديم أجوبة كافية وشافية لعوامل الخلل والتشوه الذي أصاب المجتمع العراقي وشخصية الفرد وتمزق هويته الوطنية وعجزه عن استعادة وعيه والوقوف على رجليه واستعادة حريته ؟!

للإجابة على هذا السؤال علينا قراءة الوردي والتعرف على أطروحاته الاجتماعية التي تقدم لنا مؤشرات على مصداقية أفكاره الاجتماعية وما يحمله عراق اليوم من كوارث ومحن، وهي:

أولاً: شخصية الفرد العراقي - محاضرة ألقاها في معهد الملكة عالية في بغداد في العام 1950 . وهي محاولة أولية لتفسير طبيعة المجتمع العراقي في ضوء ظاهرة "ازدواج الشخصية". وهي ظاهرة اجتماعية وليست نفسية، وهي نتاج وقوع المجتمع العراقي تحت تأثير نسقين مختلفين ومتناقضين من القيم الاجتماعية، قيم البداوة وقيم الحضارة. وهي مصدر الصراع والتناقض في شخصية الفرد العراقي. ويظهر تأثير الازدواجية في القيم والمواقف والسلوك وفي الهوة التي تفصل بين التفكير والممارسة، إذ أن لكل منا شخصيتين واحدة نتحدث بها وأخرى نمارسها. وتظهر الازدواجية في الميل إلى الجدل وفي ممارسة الحرية والديمقراطية وفي الوساطة والرشوة والشطارة وفي خدمة العلم وكره الحكومة وكذلك في الأغاني الحزينة وغيرها. ثانياً: الصراع بين قيم البداوة وقيم الحضارة: تأثر فيها بمقولة ابن خلدون"الإنسان ابن عوائده". فقد لاحظ الوردي وقوع العراق على حافة الصحراء، التي تمده بموجات بدوية مستمرة تؤثر على سلوكه وقيمه الحضرية، وهو ما سبب صراعاً مستمراً بين "بدوي غالب وحضري مغلوب". من نتائجه: التغالب والعصبية القبلية والقتال بين القبائل والمدن والمحلات وامتهان الحرف وغيرها.

ثالثاً: التغير والتناشز الاجتماعي - لقد أنتج الاتصال الحضاري مع الغرب وعملية التثاقف ودخول المخترعات الحديثة المتقدمة علميا وتقنيا إلى العراق، تغيراً وتناشزاً اجتماعياً وثقافياً انهارت على أثره جميع الحواجز بين المعقول وغير المعقول، وأصبح الطريق مفتوحا لتقبل كل شيء جديد ممكن، غير أن هذا التغير فجر صراعا بين "المجددين"، مؤيدي الحضارة الغربية وبين"المحافظين الذين وقفوا ضدها وحاربوها، وقد اعتبر البعض المجددين كفارا، في حين اعتبروا المجددين المحافظين رجعيين، وهو ما أحدث صراعا اجتماعيا بين الجيل الجديد والجيل القديم.

وقبل نصف قرن أدرك الوردي محنة العراقيين عندما قال: «إن الشعب العراقي منقسم على نفسه وفيه من الصراع القبلي والقومي والطائفي أكثر من أي بلد آخر. وليس هناك من طريق سوى تطبيق الديمقراطية، وعلى العراقيين أن يعتبروا من تجاربهم الماضية، ولو فلتت هذه الفرصة من أيدينا لضاعت منا أمداً طويلاً».

إن اطروحات علي الوردي الاجتماعية كانت إسهاماً ثرياً ومثيراً أغنى الحركة الثقافية والاجتماعية في العراق، وتركت قراء وتلاميذ ومريدين ما زالوا يستنيرون بأفكاره الاجتماعية الجريئة التي حصلت على اهتمامات فئات اجتماعية عديدة ومختلفة.

وقد أحدثت آراء الوردي الاجتماعية ونقده الجريء للمجتمع والشخصية العراقية ردود أفعال مختلفة وانتقادات لاذعة وما زالت تثير نقاشات حادة وجدلاً لا ينقطع، كما تعرض إلى اتهامات قاسية ومختلفة لأفكاره الاجتماعية الجريئة التي وجهها إلى العادات والتقاليد القديمة والطقوس الدينية البعيدة عن روح الإسلام. ومهما وجهت إلى الوردي من انتقادات، فقد بقيت كتبه وأفكاره الاجتماعية حية، وموضع اهتمام متزايد حتى من الجيل الجديد.

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved