البرُّ الغربي ... حيث حسن فتحي

2016-10-05
قالت لي سوسن بشير، وأنا في القاهرة :
لِمَ أنت في القاهرة ؟
لِمَ لا تذهب إلى " الأقصُر" ؟
قلتُ لها : لأرى الكرنك ؟
قالت: لا ...
أنت تذهب إلى الأقصُر، لتشهد الغروبَ على البرّ الغربيّ !
*
هكذا، بالطائرة، من القاهرة إلى مطار الأقصُر اللطيف، الجميل، الذي صمّمه صديقي المهندس عبّاس .
بعد أيامٍ وليالٍ من التأمُّلِ وهدهدة النيل وتصوُّفِ المعبدِ الجليل، قطعتُ النهرَ العظيمَ إلى البرّ الغربيّ، منَفِّذاً وصية سوسن بشير .
ولأني كنت في فندقٍ ينظم جولة سياحية  في وادي الملوك، انضممتُ إلى مجموعة الحافلة السياحية، لكني كنت أطمحُ إلى أن  أرى قرية حسن فتحي، معماريّ البناء الفقير، القرية التي كنتُ أظنُّها قائمةً في البرّ الغربيّ .
غير أن القرية لم تكن على طريق الحافلة، أو أن الحافلة لا تتوقّف عند تلك القرية الموعودة .
بلغْنا وادي الملوك .
صديقتي أندريا تييرني، النمساويّة، دخلت إلى المقابر الفرعونية، أمّا أنا فقد آثرتُ البقاء في الحافلة، أثرثرُ مع مساعد السائق المرِح .
عادت الحافلة إلى المَعبَر، وعُدنا إلى " الأقصر " بدون أن أرى قرية حسن فتحي .
لكني كنت مصمِّماً على الأمر .
وهكذا قطعنا، الغداةَ، النيلَ، إلى البرّ الغربيّ .
قلنا لسائق سيارة أجرة أن يمضي بنا إلى قرية حسن فتحي .
وقد أوصلَنا الرجل، إلى مقصدِنا .
لكن المفاجأة أن القرية لم تَعُدْ قائمةً .
القرية لم يتبقَّ منها سوى حجرة لها قُبّةٌ بيضاء .
قيل لنا إن القرية تهاوت بسببٍ من إهمالٍ وتجاوزٍ .
إذاً، خسِرتْ مصرُ كنزاً من كنوزِها، كنزاً لا يقِلُّ أهميّة، في رأيي، عن الكرنك، لأن حسن فتحي كان يؤسس لحاضرٍ ومستقبلٍ ، بينما رمسيس الثاني يحتفي بماضٍ عظيمٍ فقط .
*
في " الأقصُر " كنت أستمتع بالحديث مع الناس .
لهجة أهل الأقصُر، مثل لهجة مدينتي، البصرة .
وفي الأقصُر، النخل .
في الأقصُر، النهرُ، الصاعدُ شمالاً . وفي البصرة، النهرُ، الهابطُ جنوباً .
وثمّتَ السُّمرةُ الشديدة التي توحِّدُ مدينتَين .
كنا نجلسُ إلى الأعمدة الهائلة، نتأمّلُ، ونستريحُ من حاضرٍ مريرٍ، إلى ماضٍ أميرٍ .
رمسيس الثاني يُلَوِّحُ لنا، أنّى جلسْنا .
*
والغروب ؟
الغروب على البَرّ الغربي ؟
أكادُ أُقْسِمُ أنني لم أرَ الشمسَ أجملَ في مشهدِ غروبها هنا .
أنا، أخالفُ، في هذا التفصيل، بدر شاكر السياب، القائل : الشمسُ أجملُ في بلادي من سواها ...

27.03.2016 تورنتو
*
رمسيس الثاني

ستّ عشرةَ منحوتةً حملتْ وجهَكَ ...
البهوُ أنت
الجنود المحيطون بالبهوِ أنت
المسلّةُ أنت
البحيرةُ، حيث اعتلى قاربُ الشمسِ أنت
لك الأقصُرُ
النهرُ والبَرُّ
والكرنكُ الضخمُ أنت
السلالاتُ والطيرُ أنت
وأنت المسمّى بما لستَ أنتَ
كأنّ التواريخَ لم ترَ وجهَكَ
لم تلمس الطفلَ في شفتَيكَ
ولم تبصر النورَ في مقلتَيكَ
..............
..............
..............
لماذا أقول لك الآنَ :
إني أُسَمِّيكَ
أنت المسمّى بما أنتَ
أنت الجميل !

لندن 17.02.2008

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved