بعيداً عن النقد.. في عمق التذوق

إنها سياحة في جغرافية الأمكنة من خلال ذاكرة متوقدة وعاشقة لحركة الناس وذرات التراب.. هكذا
يبدأ العشق .. البحث عن المكان.. الطرقات، الجسور.. زوارق الصيد.. القناطر.. لنجات السفر، إنها
محاولة لإنتاج الأشياء وإنتاج الأمكنة من جديد .
الكثير من الأقوام جاءت إلى هنا.. ( البصرة )، من آسيا وأفريقيا بسبب الحروب وتجارة البشر والبحث
عن الإخضرار كما وإنها مدينة معادن، كانت مدينة شواطئ وصيد وقصائد شعر وأغنيات وأصبحت
مدينة أجناس مفتوحة كونها ميناء مفتوح الأذرع للآتين من كل الجهات وممتلئة بالأسرار ولا تبوح إلا
بالمسموح به فهي تحترم الخصوصية، إنها تمٌر وحناء وشباك صيد وأبراج نفط وحلقات خشابة .
البصرة مدينة ( واصل بن عطاء) الذي أوجز فلسفته [ الإيمان بالعقل قبل النقل ] تلك هي فلسفة المعتزلة
ُضيفت لهما بغداد فيما بعد .
فكانت البصرة والكوفة العراق كله ويقول الناقد ( ياسين النصير ): [ البصرة هي بصرياثا المدينة التي إستحضرها القاص ( محمد خضير) عبر ثلاث مستويات معرفية لها، مدينة الواقع، مدينة النص، ومدينة الإيهام الفضائي الثانوي، وفي هذه المدينة
تاب والشعراء ] .
الثالثة تعيش أحلام ورؤى الكُ
وهي لا تتردد في البوح عن الحب والسخاء في أشد الأوقات شحة، منها دخل الغزلة ومنها يخرجون.
البصرة حكاية فرح ومواجع وهي: [ ذاكرة الزمن الجميل والتي تحفظ كل الفصول الباكية والضاحكة كما
يقول شاعر الطرقات المنسية ومدون حكايات الأمكنة المستباحة ( محمود بدر عطية ) في مدخل الكتاب (
البصرة ـ زنجبار) نصوص ولوحات/ منشورات المركز الثقافي العراقي في السويد / وزارة الثقافة ـ
دائرة العلاقات الثقافية العامة، المزين بالصور للفنان ( شاكر بدر عطية ) .
وهو يؤكد هنا إنحداره العائلي من هناك ( مبارك هو الجد الثالث المولودعام 1843 في سلطنة زنجبار
والمنتسب إلى السود المختلطين بالعرب، كما ويؤكد إَّن زنجبار كلمة عربية محرفة أصلها بر الزنج
الذي أطلقه العمانيون على الجزيرة التي تقع في المحيط الهندي ( ص7 ) حكمها السيد سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد البوسعيدي سلطان عمان ( 1804ـ 1856 ) زار الجزيرة عام 1828 وجعلها مقرا له عام 1832 وبعد وفاته إنفصلت زنجبار عن مسقط، ويؤكد الشاعر محمود بدر عطية في أحد الهوامش ص10( إن الجد مبارك ينتسب إلى الزنج الذين إلتحقوا في القرن الثالث الهجري بالجيش العباسي ومن ثم إستقروا في البصرة وساهموا في إستصلاح الأراضي وعمل على سفن نقل التمور بين البصرة ومسقط وبومباي، وإستقل إحداها والعاملة بين مسقط وزنجبار وسافر إلى هناك وتزوج وإستقر. وتحت عنوان ( تجارة العبيد في ذلك الزمان ) ص15، ينقل لنا هذه المأساة [ الدم الأسود يصرخ ويزمجر في العروق حيث تعقد الصفقات بين التجار المحليين والعرب والأجانب في مرفأ زنجبار للسفن المعدة لنقل العبيد، إنه الإقلاع نحو النسيان.. في قاع السفينة أجساد مطروحة داخل العنابر المظلمة ] وهو هنا رني برجال ونساء، الكاتب ( الكس هيلي ) في روايته ( جذورRots ) وكيف يصطادونهم تجار الرقيق ..
يصطادهم الأوربيون من أكواخ غابات أفريقيا برمي الشباك عليهم كأصطياد الحيوانات ومن ثم يقتادونهم مصفدين
إلى عنابر البواخر الراسية في الساحل.. تلك العنابر المظلمة المليئة بالجرذان كبضاعة بشرية، عبر البحار للعمل هناك في المناجم والمزارع بالأخص الفتيات بعد ممارسة الترويض، الترويض الذي يبدأ بتغيير الأسماء وكم من قلق وضياع ومعاناة يبعثه ذلك التغيير، ينسونهم أسماءهم الأصلية والويل لمن يتعامل بها فيما بينهم، يبدأ التغيير مع الفتيات أولاً عند إدخالهن إلى الزرائب على أفرشة من القش بعد تعقيم أجسادهن بالمطهرات كالأبقار ومن ثم دس المسكرات في الأطعمة الرخيصة وهنا تبدأ اللوعة وهن يصارعن مثل السمكة المنتزعة من الشباك في حالة أقرب إلى الجنون إلى أن يتعبّن.. ويبدأ التغيير!!.
وفي قسم آخر من الكتاب ذو الـ70 صفحة يرسم لنا الشاعر محمود بدر عطية بانوروما جميلة سياحية في مدينته أبي الخصيب وفرحه المتسربل بالزهو فهو الوحيد الذي إمتلك دراجة هوائية .
وتحت عنوان الخشابة يذكر أن[ جوهر 1875ـ 1924 أول َمْن أدخل فن الخشابة إلى البصرة وكان له عند الشيخ خزعل الكعبي، ويذكر أهم ( الشدات ) أي الفرق الخاصة بهذا الفن الشعبي الذي تكثر جلساته في بساتين أبي الخصيب .
وبشفافية التناول من خلال مفردات ذات حس شعري يتحدث لنا عن ( عاشقة القرنفل ) والمغنية ( بي
كيدودا) وهي فاطمة بنت بركة [ إنها الأفريقية القديمة، وعن بيوت القرية القديمة وأثاث غرفها وضيوفهم وسطوة صاحب البيت على مجمل طاقم النساء ( البنات.. الكنات والجدات) وعن مقهى محيبس وروادها من المثقفين أو الموظفين المتنفذين في القضاء والراديو الكبير المحروس بسن الذيب والخضرمة وصوت المذيع ( يونس بحري ) يلعلع من محطة برلين أثناء الحرب الكونية الثانية وصراع أولئك المثقفين بين مؤيد لدول المحور والحلفاء، وفي موضوعة ( الجد والحفيد) تترسخ أولى تطلعات الحفيد الجمالية للأشياء، من خلال تذكر اللقطات التي تصلح كمواضيع سردية متعددة .
ويختم الشاعر الجميل كتابه بإسمين جميلين أحدهما الشاعر الراحل ( مصطفى عبداالله 1947 ـ 1989 ) الذي وافاه الأجل أثر حادث سير في المغرب عام 1989:[ لقد إنطفئوا كقناديل، ولكن زيتهم سيبقى يعطر المكان] وعندما كانوا يشاهدون مسرحية ألفها الشاعر( مصطفى ) وهم صبايا وفتيان تدور أحداثها حول مشاكل الأسرة سعر البطاقة ( 10 فلوس ) ودام العرض ثلاثة أيام، ما أروع هذا الإهتمام المبكر الذي أنتج فيما بعد الشاعر مصطفى عبد االله والشاعر محمود بدر عطية ومثقفين آخريين .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ـ قاص عراقي من مواليد الفاو في البصرة 1