البيت الصامت لأورهان باموق

2008-05-23
حي//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/4b6ca3ec-0264-4207-a4be-95931f7259af.jpeg اة عائلة يبحث أفرادها عن هويّتهم الخاصّة!
ليس ثمّة راوٍ وحيد في رواية أورهان باموق الجديدة، «البيت الصامت» (الصادرة عن دار المدى في ترجمة لعبد القادر عبد اللى) بل رواة عدة هم أبطال الرواية أنفسهم والذين يشكلون محورها الرئيس. لذلك، في كل قسم منها، يأخذ أحدهم المبادرة في الكلام متحدثاً عما يجري له بالإشتراك مع الأبطال الآخرين، هناك الجدة والأولاد الثلاثة إضافة إلى الخادم القزم وابن شقيقه أيضاً.

هؤلاء يتشاركون القصّ علينا في عملية سرد تطول لتمتد إلى 450 صفحة، ليس في صيغة الحديث عن الحاضر أو الماضي فحسب بل عن المستقبل، وهذا ما فعلته الجدّة بدايةً، إذ اخذت الكلام أولاً في بداية الرواية متحدِّثة عن حياتها في شبابها وكيفية زواجها، وهي تتابع انتظارها مع خادمها القزم قدوم أحفادها، الذين يأتون كل صيف غداة انتهاء فصل الشتاء من اسطنبول إلى هذه المدينة الصغيرة التي تقع على طريق أنقرة -اسطنبول.

سيرة عائلة

يبدأ القارئ بتلمُّس حياة هذه العائلة خلال توالي أحداثها، عبر استعادة شريط الذكريات لكل منهم. هكذا نعلم أن الجدة التي تزوجت من طبيب، اضطرت إلى ترك اسطنبول معه والمجيء إلى هذه البلدة بعد قرار اتخذه الحزب الذي ينتمي إليه هذا الطبيب الذي يبدو اهتمامه جلياً وظاهراً للعيان بالشأن العام، فتتولى زوجته، أي الجدة الكبرى، معيشة أسرتها بعدما طمع أهلها بتزويجها إياه نظراً إلى تحصيله العلمي ومستقبله الباهر الذي ينتظره كطبيب، إلا أن هذا الطبيب المسكون بهاجس تركيا والشرق واللحاق بأوروبا، يتخذ لنفسه مشروعاً ثقافياً أخذ منه عمره من دون طائل، بعدما استهلك كل ما تملك زوجته من حلي ومجوهرات ورثتها عن والديها.

لم يمت هذا المشروع الثقافي بوفاة الوالد، بل انتقل إلى ولده الذي ترك عمله المهم في الدولة منتفضاً على الظلم والفساد المتفشّي في تركيا، مفتشًا وسائلاً والدته عن أوراق وأبحاث والده لينشرها، علّها تستطيع تبديل الأوضاع ولو قليلاً.

انغمس الولد في لعبة والده أيضاً، يبدو أن خصال هذه العائلة تتوارثها الأجيال، ويكون في كل جيل بطل يهجس بنهضة تركيا والشرق ويثق بإمكاناته وبقدراته على فعل شيء ما، وهو ما حصل مع الحفيد أيضاً، لذلك تبدو رواية أورهان باموق عبر الأجيال الثلاثة هذه، مسكونة على غرار غالبية رواياته بهاجس البحث والتفتيش عن شخصية محددة لتركيا نفسها غداة انهيار أمبراطوريتها، فلا هي استطاعت أن تبني نهضتها واللحاق بأوروبا ولا أن تأخذ مصيراً مختلفاً يجعلها من الأمم المهمّة في حاضر العالم اليوم.

يبرز ذلك جلياً من خلال إظهار الكاتب لطبيعة الصراعات السياسية التي تعرضت لها تركيا في ثمانينات القرن الماضي بين المتعصّبين القوميين وبين الشيوعيين.

هذا الصراع، الذي شغل تركيا لعقود وزاد على سنوات ضياعها، أخذ حيزاً كبيراً من الرواية يكاد يقترب من نصفها، بالإضافة إلى حيز كبير أخذته أراء الجد حول أجدى الطرق لصلاح تركيا وتطوّرها.

تحفل الرواية بالحديث عن هموم الشباب التركي حينها وعن رغبته في الهجرة إلى الخارج لتحقيق مستقبله بفعل أوضاع تركيا المزرية، واستحالة تحقيق هذا المستقبل فيها، إضافة إلى تصوير حياة بعض فئات الشباب الميسورين التي يسيطر عليها الصخب واللهو وإهمال المشاريع السياسية الكبرى، وانشغالهم بمستقبلهم الشخصي ليس أكثر.

ينجح أورهان باموق في رسم شخصية الفتى المراهق المتمرّد على أهله وبيئته وكيف أنه يشكّل عبئاً عليهم ومصدر قلق دائمًا لهم، خصوصاً إذا كان من الفئات الاجتماعية المهمّشة، التي تعتبر أرضاً خصبة لولادة الفاشية وتأثّر الشباب فيها وسرعة انضمامهم إلى صفوفها.

عجز عن التعبير

لن ننسى بالطبع مقدرة باموق على الوصف الدقيق لمزاجية المراهق وأحواله وعجزه عن التعبير عمّا يجول في خاطره ويعتمل في صدره وتردّده في الخطوات التي يودّ القيام بها، إضافة إلى تركيب الحوارات والأحداث في ذهنه قبل حصولها، راسماً لها إطاراً محدداً لتجري وفق مقتضاه على أرض الواقع.

بمعنى آخر، يحاول تطويع الواقع ليتماشى مع بنيان الوهم للأمور في ذهنه، وخير من يجسّد هذا الأمر تجسيداً حقيقياً في هذه الرواية هو ابن أخ الخادم القزم المغرم بحفيدة الطبيب، والذي يرسم في ذهنه صورة لمستقبله بعد سنوات طويلة بطريقة طوباوية من دون أي أسس أو قواعد ثابتة ومتينة، هو الراسب في الثانوية ويحلم بنجاحه وتفوقه في الحياة ليعلّم بعدها الآخرين بسلوكه الخاص والمثالي كيفية العيش وفق تصورات أخلاقية بحتة، كردة فعل على وضعه الاجتماعي السيئ والمزدرى من قبل الآخرين.

أخيراً ينجح باموق في هذه اللعبة عبر تداخل الحوارات في ما بينها حيث يختلط الحاضر بالماضي، وخير من يجسّد هذه اللعبة في الرواية هو الجدة الكبيرة التي تحاور نفسها فيما يتحدث معها الآخرون.

تهجس رواية باموق على غرار رواياته الأخرى بمشاكل تركية الباحثة عن شخصيتها وعن هوية خاصة تميّزها راهناً بعد عملية القطع التي أجرتها مع تاريخها العظيم، الذي شكلته في ما مضى على امتداد أكثر من خمسماية عام.

في هذا النص الذي نقتبسه من الرواية، تظهر جلياً أراء وأفكار باموق، حيث يقول الجد لزوجته:

«نحن هنا سنفكر بأشياء طازجة بسيطة جديدة جداً وسنؤسس حياة جديدة من خلال عيشنا، حياة حرة لم يشهدها الشرق بعد، جنة العقل التي نزلت إلى الأرض، أقسم لك يا فاطمة أن هذا سيحدث، وسنفعل هذا بشكل أفضل مما فعله الذين في الغرب. رأينا أخطاءهم، ولن نأخذ نواقصهم وإذا لم نر أو يرَ أولادنا جنة العقل هذه، فإن أحفادنا سيعيشونها على هذه الأرض وأقسم أن هذا سيحدث!

علينا أن نؤمن تعليماً جيداً لهذا الولد الذي في بطنك مهما كلّف الأمر. لن أجعله يبكي مرة واحدة، لن أعلم هذا الولد ذلك المدعو خوفاً أبداً، ذلك الحزن الشرقي، البكاء والتشاؤم والهزيمة وطأطأة الرأس المخيفة الخاصة بالشرق أبداً، سنبذل جهداً معاً لتربيته سننشئه إنساناً حراً.

أنت تعرفين ما يعنيه هذا أليس كذلك؟ أحسنت أنا فخور بك يا فاطمة، أنا أحترمك، أنا لا أراك جارية أو خادمة، أو أَمَة كما يرى الآخرون زوجاتهم أنت زوجتي يا روحي، أتفهمين هذا هيا لنعد الحياة جميلة كالحلم ولكن ثمة ضرورة للعمل على جعل الآخرين أيضاً يرون هذا الحلم. نحن عائدون».

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved