آخر ماقدمه المخرج الايراني المغمور (جعفر بناهي), فيلم (تسلّل)- إنتاج 2006, والذي أراد من خلاله رصد الحالة الإيرانية النسويّة الحديثة, من خلال مشجعات ايرانيات شابات أردن الدخول لمباراة بلادهم (ايران) مع منتخب البحرين لكرة القدم, في التصفيات النهائية لكأس العالم.
المباراة تقام على استاد آزادي في طهران, مما يحتّم على المشجعات الإيرانيات التنكر من خلال صبغ وجههن بألوان العلم الإيراني, وارتداء قبعات لاعبي البيسبول الشهيرة, ذلك أن القانون الايراني يمنع ويجرّم دخول النساء إلى ملاعب كرة القدم.
يبدأ الفيلم ببطلته (سيما مبارك), وهي في حافلة متجه للمباراة, (سيما) فتاة إيرانية جميلة, استطاعت أن تتقن صبغ وجهها والتنكر في هيئة شاب, ولكنها تبدو منفعلة وخائفة من اكتشاف امرها, فهذه الفتاة هي الأولى بين مجموعة من الفتيات سنشاهدهن لاحقاً يتنكرن بهذه الهيئة, ولكن (سيما) تختلف عن البقية, إذ انها تمتلك سراً آخراً لمجيئها للمباراة؛ إنها جاءت لتحيي ذكرى صديقها الذي مات في ذات الملعب من العام الماضي, بعد حادثة سقوط المدرجات على المشجعين, فما ان تصل (سيما) إلى ملاعب, نجدها تشتري تذكرة الدخول من السوق السوداء بضعف المبلغ, وتشتري ملصق كبير للاعب الايراني الشهير علي كريمي, لتضعه على وجهها.
لا تتمكن (سيما) من دخول المباراة, وتحتجز مع أخريات في سجن/سياج مؤقت, حتى وقت انتهاء المباراة, لتتمكن شرطة الملعب من ارسال الفتيات لمركز التأديب.
العودة إلى أفلام مخرج العمل جعفر بناهي, تقودنا إلى أرشيف حافل, بدأه (بناهي) مع فيلم (البالون الأبيض) في العام 1995م, وكانت ثيمة الفيلم هي البالونة البيضاء كرمز للحرية, من خلال قصة بطلة الفيلم (راضية), الطفلة التي تحلم باقتناء سمكة للزينة, لتصر على على والدتها لمنحها المال لشرائها, الأم توافق على منحها المال, ولكن (راضية) تفقد المال لمرتين متتاليتين, لتبدأ مغامرات الطفلة في إنقاذ مالها الذي سقط في حفرة ضيقة.
الجامع بين أول فيلم لبناهي (البالون الأبيض) وآخر فيلم (تسلل), هو وجود الشرطي الايراني الشاب المجند, والذي دائماً مايكون حالماً بمستقبل أفضل, وفي ذات الوقت, هو الشاب المكتئب الذي يشكل جزءاً مهماً في أحداث الفيلم.
كما الحال في فيلم (تسلل), إذ أن الشرطي الذي يبدو بسيط المظهر والمعاملة, هو الذي يحتجز الفتيات في الملعب, ومع معاملته لهم بالكثير من الأخوية, إلا أنه يصر على أن لايتساهل معهن, ويرفض نهائياً أن يسمح لهن بمشاهدة المباراة من خلال فتحات الأبواب, لذلك تقترح أحدى الفتيات أن يقوم أحد الحراس في التعليق الصوتي على مجريات المباراة, بقولها: «لتكن مذياعاً لنا, ولكن لاتكن مثل الراديو الرسمي, الذي يمجد زعمائه المحليين».
جعفر بناهي في هذا الفيلم يصل لنضوج كبير, اكتسبه من أفلامه السينمائية الخمسة السابقة, والتي لاقت رواجاً كبيراً بين المهرجانات العالمية, ومن الخبرة التي استمدها من عمله كمساعد للمخرج الشهير (عباس كياروستامي) صاحب الفيلم الفائز بجائزة مهرجان (كان) الكبرى عن فيلم (طعم الكرز), وصاحب فيلم (شرين) الذي انتج مؤخراً. (بناهي) يبدو عليه التأثر الكبير بأستاذه (عباس), من خلال التصوير الذي يقترب للتوثيقي أقرب منه للسينمائي, ومن خلال استخدامه الجيد للإضاءة الطبيعية, والاستغناء عن الموسيقى التصويرية بالمؤثرات الصوتية الصادرة مباشرة من الظروف الطبيعية التي تقع فيها احداث الفيلم.
فأصوات الجماهير التي غص بها استاد ازادي الرياضي كانت هي الموسيقى التي من شأنها التعبير عن ما يلوج بخاطر الفتيات وهن لايستطعن مشاهدة المباراة, ويقتصرن على سماع هتاف الجماهير فقط.
منع المرأة من مشاهدة مباريات كرة القدم في ايران, جاء بقرار ديني بعد انتصار الثورة الايرانية الاسلامية في العام 1979, إذ أن النساء كانت تتمكن من مشاهدة المباراة في عهد النظام الملكي, ولكن ذلك انقطع بضغط من رجال الدين المحافظين, بحجة ان المخالطة غير مسموحة في الدين الاسلامي, وقد كانت ايران قاب قوسين من تمكن المرأة من مشاهدة المباراة في عهد الرئيس الجديد أحمدي نجاد, إذ أنه أمر بإصدار قرار تتمكن النساء من خلاله الجلوس على مقاعد الملاعب صفا صفاً مع الرجال, ولكن هذا القرار قوبل بالرفض الشديد من قبل رجال الدين المحافظين.
قبل انتهاء فيلم (تسلل) تسأل إحدى الفتيات الشرطي الذي كان يحرسهم: «لماذا لا يسمح لنا بمشاهدة المباراة؟», فيجيبها الشرطي: «حتى لاتسمعن هتافات الجماهير التي تحتوي على كلام بذيء», فترد الفتاة عليه: «ولكننا نجلس مع الرجال في صالات السينما, في غرفة مظلمة».
حالة الفرحة الكبيرة في نهاية الفيلم, كانت تمثّل الأمل الكبير لهذه البلاد في مستقبل أفضل, وكان المخرج يرغب في أن يقول, بأن هذه البلاد تحتاج إلى المزيد من الفرح, لذلك عمد إلى استخدام السلام الملكي القديم, الذي كان يستخدم قبل الحادي عشر من فبراير 1979, وهو نشيد أكثر وطنية من الحالي على حد تعبيره.
منع الفيلم من العرض في ايران, وهو قرار مستنكر من الرقابة الايرانية, رغم أن الفيلم كان جدياً في طرح القضية, رغم نوايا المخرج كانت تشي بنبذ الخلافات ونشر الحب الوطني بين الجميع, لذلك قال بناهي بعد تصوير الفيلم: "لو ان ايران هزمت في المباراة, لما أكملت تصوير الفيلم".
هناك حالة كبيرة من البراءة يتسم بها الوضع العام في الفيلم, هناك الأحلام الكبيرة التي يرغب بها الجميع, فالمباراة تنتهي بفوز المنتخب الايراني على المنتخب البحريني بنتيجة واحد/صفر, فيخرج فوج المشجعين في شوارع ايران الليلية فرحين؛ يصفقون ويرقصون ويوزعون الحلويات, وحتى الحافلة التي تقود الفتيات لم تهدأ بها هتافات الفرح الممزوجة باللوعة.
فاز الفيلم بواحدة من أكبر الجوائز العالمية السينمائية, إنها جائزة (الدب الفضي) ثاني أكبر الجوائز في مهرجان برلين السينمائي.