القطار ، وما أدْراكَ !

2016-11-29
القِطارُ، بالعربية الأصيلة، يعني قافلة الإبِل، التي تسير فيها الرواحلُ، راحلةً إثْرَ أخرى، في خطٍّ مستقيمٍ .

وكما ورد  عند ابن منظور في " لسان العرب " :

القطارُ أنْ تَقْطُرَ الإبِلُ بعضَها إلى بعضٍ على نسَقٍ واحدٍ .

والحقُّ أنّ حظَّنا، نحن العرب، من القطارِ، ظلَّ متّصلاً بابن منظور، حتى اليوم . أي أننا لم نُحَقِّقْ منافع القطار، ومسالكَه، خطوطاً وتخطيطاً . حتى قطاراتنا القليلة هي بطيئةٌ ، مقايَسةً بقطارات الآخرين .

أقرأُ " قطار الشرق السريع "  Orient Express لأغاثا كْرِسْتي، فأستمتع بمشهدِ القطار وعرباته ورُكّابه، حتى لَكأنني في عالَمٍ مسحورٍ . الدهشة إيّاها أشعرُ بها وأنا أقرأ غراهام غرِين وقطارات مهرِّبيه ومغامريه .

وأسافرُ على قطار " اليوروسْتار " تحت الماء، من لندن إلى باريس وبْروكسل .

وقد يأتي يومٌ نسافرُ فيه على قطارٍ طائرٍ .

ألسنا نسافر الآن في حافلةِ رِيحٍ ؟ Air Bus...

*

في العراق، مدَّ الإنجليز سككَ حديدٍ للإسراع في نقل جنودهم حين احتلّوا البلد .

الحكومات المتتالية في هذا البلد لم تُضِفْ خطوطاً يُعتَدُّ بها، حتى الآن ...

الأمرُ مفهومٌ .

قبل الحرب العالمية الأولى، كان بمقدور المرءِ أن يأخذَ القطار من برلين إلى بغداد .

وأراد العثمانيّون أن يلمّوا أطرافَ امبراطوريّتِهم المترهلة، فاستعانوا بالألمان، في مدّ المراحلِ الأساسِ من

" الخطّ الحجازيّ "، حتى بلغوا الأردنّ، مروراً بدمشق التي ظلّت تتباهى بــ: " المحطة الحجازية " التي ما زالت قائمةً، محتفيةً بجَمالها، وإن لم تَعُدْ ذات قطاراتٍ بعيدة المقصد .

لقد دمّر الإنجليز، بمتفجرات لورنس العرب، الخطَّ الحجازيّ .

وبالرغم من الثراء الفاحش المتأتي من عائدات النفط، لم تدبّ الحياة في " خطّ الحجاز "، إلاّ مع عمر الشريف وأوتولي، سينمائيّاً !

*

في أواسط الستينيّات، كان بمقدور المرءِ أن يسافرَ بالقطارات التي مدَّها الفرنسيّون المستعمِرون، من تونس إلى المملكة المغربية، مروراً بالجزائر .

أنا سافرتُ بهذا القطار الميمون .

اليوم، توقَفَ القطار عند الحدود الجزائرية المغربية، في نقطة حدوديّة تُدْعى " زوج بِغال " !

*

يقول رفيقي العجيب كارل ماركس بلسانٍ ألمانيٍّ مُبِينٍ :

Revolutionen sind die Locomotiven der Geschicht.

هذه القولة الكريمة تأتي باللسان العربيّ المُبِين :

الثوراتُ هي قاطراتُ التاريخ .

*

في العام 1963، كنت سجيناً في " نقرة السلمان "، الحِصْن الصحراويّ الذي شيّده الجنرال جْلوب ( أبو حنَيْك ) لصدّ غارات الوهّابيّين، وحبس الوطنيّين .

كان الوقتُ عصراً، حين انفتحت البوّابةُ  الكبرى، ليتدفّقَ حشدٌ مرهَقٌ من عسكريّين ومدنيّين، تحت حراسةٍ مشدّدةٍ .

كان هؤلاء رفاقنا الذين نجَوا، في شبه معجزةٍ، من " قطار الموت " .

كان القطار، عرباتِ شحنٍ، مغلَقةً بإحكامٍ، كي يموت مَن بداخلِها اختناقاً، في الرِّحلة الطويلة من سجن بغداد إلى السماوةِ، التي تمتدُّ منها باديةُ السماوةِ، التي نكَّبَها المتنبي ذات رِحلةٍ :

تركْنا مِن وراءِ العِيسِ نجداً   ونَكَّبْنا السماوةَ والعراقا  !

 

تورنتو  14.05.2016

 

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved