الربيع آتٍ آتٍ ... وإنْ تأخّرَ !

2016-10-23
في أواسط آذار ( مارس ) من كل عامٍ ، أجيء إلى تورنتو، الحاضرة الكنَدية الكبرى، قادماً من  متروبوليس أوربا الكبرى، لندن.
وفي كل مرة، أُمَنِّي نفسي، وأنا في الطائرة، بأنني سأشهدُ الربيع مبكِّراً عند ضفاف بحيرة أونتاريو .
لكني، كلَّ مرّةٍ أيضاً، أشهدُ نهاراً، برداً ومطراً، وليلاً تحت الصِّفر !
أظنُّني بطيءَ الفهم والاستجابة، أمْ أن الطبيعة أقوى من الإنسان ؟
على أي حالٍ، أنا سعيدٌ لأنني في كندا، غيرُ بعيدٍ عن وسط المدينة،  أسمعُ في الصباح المبكِّرِ أصواتَ العربات والحافلات، بدلاً من أغاريد الطير التي أسمعُها، فجراً، في الضاحية اللندنية، مؤْذنةً  بيومٍ جديد .
كما أنني سعيدٌ، آنَ أكون في الشارع، سائراً مع الناس .
مَرَدُّ هذه السعادةِ أن الناسَ هنا، من أقوامٍ شتّى، وقاراتٍ مختلفة، لكنّ هذه الأقوامَ والقاراتِ ائتلَفَتْ، وهي في سبيلِها لأن تكوِّنَ شعباً كنَديّاً، فريداً في ائتلافِه واختلافِه .
دولُ أوربا، تكوّنتْ على أساسِ الدولة  القوميّة، ومستلزَماتِها من نقاءِ عِرْقٍ، ووحدةِ لغةٍ، وعُمْقِ تاريخٍ .
لكنّ الأمرَ في كندا، مختلفٌ تماماً .
شِبْهُ القارة هذه كوّنَها مهاجرون أوائلُ،  وما زال مهاجرون أواخرُ يكوِّنونَها .
تعدّدت السِماتُ واللغاتُ .
واختلفَ الملْبسُ والمطعمُ .
وتعدّدت العبادات،  ودُورُ العِبادةِ .
*
في لندن، العاصمة الإمبراطورية، أُقِيمُ في ضاحيةٍ  منها، بيضاء مائة بالمائة .
أنا في تلك الضاحية، غرابٌ أبقعُ وحيدٌ .
إنْ تكلّمتُ، فعَلَيّ أن ألوي لساني بلغة القومِ،  وإن اخترتُ مَلْبَساً  كان لبوسي مثل أهل الضاحية .
في الأعياد،  وأعني الإنجليزيَّ منها، عليّ أن أحترمَ عوائدَ الناسِ، فأُعَلِّقُ على باب منزلي ما يشير إلى ذلك، من نبتٍ أو تقليدِ نبْتٍ ... إلخ .
إنْ كنتَ في روما فافعلْ ما يفعله الرومانيّون .
أمّا هنا، في تورنتو، فالأمرُ مختلفٌ تماماً .
تورنتو هي بابل، لا روما .
هنا، تلقى الصينيّ والتبتي، الأريتيريّ والصوماليّ، العربيّ والبولنديّ، الإيطاليّ والبرتغاليّ، والهنودَ سِيخاً وهندوساً وتاميلَ ...
إلخ .
أنت لن تشعر بالغربةِ .
كلُّنا غريبٌ أصيلٌ في آن .
*
لكنْ عليّ القولُ إن للمهاجرين الأوائل، البِيض، احتكاماتٍ أخرى :
هؤلاء جاؤوا من إنجلترا وفرنسا .
استولَوا على شِبه القارة من سكّانِها الأصليّين، واستعمروها .
وهم يشعرون بأنّ  لهم حقّاً في كندا  أكثرَ من سواهم .
بل قد يشعرُ ذوو الأصل الفرنسيّ بأن لهم حقّاً  أكثر من ذوي الأصل الإنجليزيّ .
لكن للزمن أحكامَه .
والبِيضُ يقتسمون الحُكمَ والنفوذَ في البلاد .
التآلفُ  انتصرَ .
ولم يُفلِحْ حتى الجنرال ديغول  في أن يزحزحَه، حين هتفَ، وهو يزور كيبك ذات الغالبية الفرنسية :
عاشتْ كيبك الحرة !
Vive le Quebec libre ! 
قبل أيّام كانت آن – ماري لو بَنْ، زعيمة  " الجبهة القوميّة " اليمينية في فرنسا،  تزور كيبَك،  وانتقدتْ سياسة كندا  في فتح باب الهجرة . 
لكنْ  أحداً، هنا، لم يكلِّفْ نفسه، حتى عناءَ الردِّ .
آن- ماري  لو بَنْ  آتيةٌ من عالمٍ عتيق !

تورنتو 30.03.2016





سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved