الربيع الصامت / توما شماني

2007-11-02

راشيل كارسن كتبت (الربيع الصامت) صارخة الارض تتدهور فهل من سفينة نوح تنقذ البشر ؟

 قبل 45 عاما كتبت راشيل كارسن كتابها الشهير (الربيع الصامت)، وهو اول صافرة انذار صارخة تقول ما معناه ايها الانسان المهبول استيقظ من سباتك لان الارض في خطر ويوم الحشر آت، لاننا سنشهد سنين بلا ربيع لا تصدح فيها البلابل والعصافير ولا نسمع تغاريدها العذبة لانها مقضي عليها بالموت.

كتاب (الربيع الصامت) نشر في عام 1962 ولم يوقظ الانسان من سباته الا في وقت متأخر، ومع ذلك فانه مايزال يعاني النعاس والخمول في حل مشكلة الارض المريضة بمرض الرعاش والجنون، ولا من دواء ولا من علاج للارض، حتى تحدث المعجزة في وقت انتهت فيه المعجزات الإلهية وحلت فيه المعجزات التكنولوجية، وما لدينا الآن من تكنولوجيات يقوم على تكنولوجيات الهدم كالقنابل النووية، طائرات لاترى بالعين صواريخ عابرات القارات او دائرات في الفضاء واصلات القمر والنجوم مسابقات الضوء والصوت، غواصات دقيقات رائدات انابيب الدم في الانسان كاشفات عما في الجسم من دقائق لاتقوى عيون الانسان على التوصل لها، كل هذه تقنيات انما هي من الجن ستقلب الارض رأسا على عقب.

(الربيع الصامت) ليس قصة للاستئناس في قرائتها والانسان مستلق على الأريكة الوثيرة، وليست من كتب الخيال والقصص العلمية، انه كتاب ثقة منذر ومنبه استقبلته حركات انصار البيئة في كل مكان في العالم بفرح. لكن في زمن كان العالم فيه نائما حيث لم تكن هناك في القواميس مفردات كالتلوث او البيئة بمدلولاتها الحالية، كانت البيئة غير منظورة للناس، حتى جاء الطوفان الذي نشاهد بداياته الآن، البحار تنقلب في ربع دائرة الارض، العواصف تتكاثر وتزداد عنفا، الامطار تتساقط في مكان وتشح في امكنة اخرى كل هذه علامات الآخرة.

راشيل كارسن التي كتبت (الربيع الصامت) كانت كاتبة عالية المعرفة في التاريخ الطبيعي في مملكة الحيوان والنبات، وكانت في ذات الوقت ناقدة اجتماعية، وقد تولت نشر كتابها منشورات (نادي كتاب الشهر) وقد زكاه (وليم دكلس) من محكمة العدل العليا واستمرت جريدة النيويورك تايمس لعدة اسابيع تنشر عنه على انه من اكثر الكتب مبيعا مما اثار اهتمام العالم لاول مرة في قضايا استخدام المبيدات الحشرية ومسألة التلوث والانتباه الى البيئة. كتاب (الربيع الصامت) كان له الاثر في منع استخدام الـ (دي دي تي) في الولايات المتحدة الامريكية. وقد اكد الكتاب على التأثيرالسيء خاصة على بيئة الطيور اذ تجعل قشرة البيوض عندهم رقيقة مما يسبب لها مشاكلا في التكاثر، وفي (الربيع الصامت) شنت راشيل كارسن حملة اتهام الصناعة الكيمياوية بنشرها معلومات ضالة للجمهور والدوائر الحكومية التي تستسلم للاعلائات التي تنشرها الشركات الخاصة بالمبيدات. (الربيع الصامت) كان اكبر منبه للعالم النائم واعتبر الخامس بين قائمة احسن الكتب اللاقصصية المائة التي صدرت في القرن العشرين. واعتبرته (مجلة ديسكوفري) في المقام الخامس والعشرين من بين احسن الكتب لكل الدهور.

علق استاذ التاريخ غاري كرول قائلا (راشيل كارسن في كتابها الربيع الصامت لعبت دورا كبيرا في مسألة البيئة لانها عرضة للدمار في محاولات تكنولوجية ُمَهندسة لتدمير البيئة) وقالت (مجلة تايم) في عام 1999 بعد سنة من صدور الكتاب (ورغم الحملة القذرة التي شنت على راشيل كارسن اصبح العالم اكثر تـأييدا لها، وكانوا يريدون منع العلماء الشجعان من جعل القضية مسألة علاقات جماهيرية، لكن مع هذا اصبح الناس اكثر اهتماما ومشاركة).

وكان نجاح راشيل كارسن في انها كشفت بوضوح بانها لاتود منع المبيدات الحشرية او سحبها كليا بل استخدامها بعناية ومسؤولية والتنبه الى خطورة استخدام المبيدات على البيئة الحياتية بكاملها.
صدر كتاب (الربيع الصامت) في عام 1962ولقي معارضة شديدة و قالت (مجلة تايم) في عام 1999 انه اثر صدور (الربيع الصامت) لقي الكثير من المعارضة القذرة، اذ تلقت راشيل كارسن الكثير من التهديدات بالاغتيال ووصفتها الجبهة المعارضة بـ (المرأة المستهترة) غير المؤهلة لكتابة مثل هذا الكتاب. اما الهجوم الاكبر على راشيل كارسن فقد كان من الشركات الكيماوية العملاقة في اميركا كـ (مونساتو) و (فلسيكول) و (السياناميد) وهي الشركات العملاقة المسيطرة على انتاج المبيدات الكيمياوية وكانت تساندهم وزارة الزراعة الامريكية والصحافة التي كانت تتلقى الاعلانات، وهي الدخل الكبير للصحف. وفي الستينات علق (روبرت ستيف) الكيمياوي الحياتي والناطق باسم الصناعات الكيمياوية قائلا (اذا ما اتبع الإنسان خطي راشيل كارسن فانه سيعود الى العصور المظلمة فتعود الحشرات والامراض لترث الارض).

بقيت الهجمات قائمة على كتاب (الربيع الصامت) من قبل الصناعات والمؤسسات الزراعية، وفي عام 2005 قام سياسي بريطاني بهجمة واسعة قائلا ان كارسن تنذرنا بخطر دون ان تعى الحقائق. كل هذا الذي حدث نحو كارسون ولم يعوا بان المقاومة التي احدثتها الحشرات بسبب استمرار استخدام المبيدات في محاولة ابادتها، قد افشلت الكثير من البرامج الصحية. وفي عام 2002 وفي وقت متأخر نشرت (مجلة ريزن) بحثا للاقتصادي (رونالد بيلي) محتفلا بمرور 40 عاما على صدور كتاب (الربيع الصامت) لحث المؤسسات الصناعية للأخذ به معتبرا الكتاب مزيجا من الارث.

كتاب (الربيع الصامت) يشير الى المشاكل التي يحدثها الـ (دي دي تي) على الحياة البرية واثر الكيمياويات المركبة على صحة الانسان، المشكلة التي لم يعها العالم الا بعد اربعة عقود من الزمن دون ان يتصوروا المخاطر الآتية. في حين ان الكتاب تكهن مشيرا ان ضعوا حدا لاستخدام المبيدات لانه سيؤدي الى فناء الحيوانات وخاصة الطيور واكثر من ذلك الانسان.

 كتاب (الربيع الصامت) حث الشاعر جون كيتس الى القول في قصيدة (الجرص يحث على الرحمة)، (الارض تدهورت في البحيرة وليس هناك من اغاريد الطيور).
في مقال لمجلة تايم الامريكية الشهيرة وفي عدد خاص قبيل حلول القرن الحادي والعشرين، القرن الذي وصفته قبل مجيئه بـ (قرن القصص العلمية الخيالية) وصفت راشيل كارسن بانها امرأة جريئة وكتاب (الربيع الصامت) جريئ واضافت تقول عنها، كانت فتاة خجولة بشعر جعد، بدأت الكتابة منذ عهدها بالمراهقة ثم نظمت الشعر في مجلة المدرسة وفي الثانوية وفي وقت مبكرة من شبابها بدأت (تتحسس العجب) في موضوع علوم الحياة. في عام 1929 حصلت على الماجستير في علم الحيوان الا ان ظروفها العائلية منعتها من الحصول على الدكترة. ثم بدأت تدريس علم الحيوان في جامعة ماريلاند ولكنها استمرت صيفا في الدراسة في مختبر لعلوم الحياة البحرية وكانت آنذاك في ربيع العشرين من حياتها ولقد أثارها العجب عما في البحار من غموض حياتي، وفي عهد الراديو بدأت راشيل كارسن في عام1935 الكتابة للراديوالخاص بالمكتب القديم للاسماك، وبعدها اصبحت تعمل طيلة يومها في مواضيع الاحياء المائية على رغم ضآلة الراتب الذي كانت تتلقاه. وعلى الرغم من كونها لم تنشر قصائدها الشعرية، الا ان شعرها يعتبر كنزا آخرا من مخلفاتها. ومما نشر لها من كتب (تحت ريح البحر) وهو كتاب لم يثر الاهتمام في حينه ولكن في عام 1946 رقيت راشيل الى رئيسة تحرير (منشورات).

وبعد عصر الـ (دي دي تي) حلت مبيدات اخرى اكثر سمية وفعلا وهي (الدايالدرين والباراثون والمالاثيون) وبيعت في الاسواث التجارية بحرية مطلقة فعلقت راشيل كارسن تقول (كلما تعلمت ما يخص هذه المبيدات، كلما ازددت رعبا، واجد في الوقت مجالا لكتاب عما اكتشفته، انني كامرأة تعمل في الطبيعة مهددة بالخطر ولا استطيع الا القول بانني سافعل شيئا مهما). ومع ذلك فلم تهتم الصحف بما نطقت به راشيل كارسون وفي 1957 حدث ان ابيدت حيوانات اثر استخدام هذه السموم ومنها مادة (الامينو تريازول) الخاصة في رش ثمرة الكرامبيري فبدأت صيحات اخرى، فمنعت دائرة الوراعة الامريكية من رش هذه الثمرة بالمادة. بعد ان قلت اغاريد الطيور في الغابات والمسطحات المائية.

راشيل كارسون في كتابها (الربيع الصامت) الذي نشرته في عام 1964 في بدايته لم يثر صدى كبيرا الا بين مجتمعات ضيقة، لكنه لقي حملات مسعورة من المؤسسات التي تنتج المبيدات الحشرية وهي شركات تمتلك البلايين  من الدولارات وكانت الدوائر الزراعية الحكومية آنذاك في حيرة من امرها لان الكتاب لم يكن الا رأي امراة متخصصة محتملا الخطأ والصواب، فكانت في صف تلك الشركات، حتى الصحف الامريكية والمجلات وقفت مع الصف المعادي ومن جملتها مجلة (تايم) الاسبوعية الشهيرة التي يقرأها الملايين من الامريكيين والعالم، كان الموقف رافضا للكتاب، وكانت المؤسسات المنتجة للمبيدات ترى راشيل كارسون في كتابها (الربيع الصامت) قنبلة مهددة لارباحهم الهائلة فجنت جنونا فلم تكتف بالتحريض ضد الكتاب مجندة الكثير من الاختصاصيين لتسفيه الكتاب، ولم تكتف بهذا بل راحت تكيل لها السب والكلمات المهينه حتى انها تعرضت للاغتيال ولكن رغم ذلك فان كتاب (الربيع الصامت) بقي صامدا في وجوههم ومن ناحية اخرى خلق وعيا عارما وثورة في النظر الى البيئة لم يرها العالم من قبل، ولا يزال سعيرها قائما ولو في وقت متأخر.

ان عام 2007 هو العام المائوي لولادة راشيل كارسون واذ فشلت في الفترة الاولى في دفع آرائها وتوصياتها ونالت الاهانات منها الا ان كتابها (الربيع الصامت) بقي الكتاب الصارخ في وجه الانسان النائم على مافعله من خطايا تجاه نفسه وامه الارض.

كانت اليقظة الاولى للحكومات عندما عقدوا مؤتمر (كيوتو) الذي لم يعمل الا قليلا، الا ان الامر تطور الآن فان كافة الحكومات تيقظت وهي ترى انهارا تجف وبحارا تتفجر وثلاجات في القطب تذوب والضباب والدخان يعمي العيون والمياه والهواء يتسمم. انها صحوة الا انها كما يقولون (كل ما حدث الآن قليل جدا ومتأخر جدا) لان بيئة الارض قد اصابتها السرطانات وهي الآن تموت موتا بطيئا.

أتذكر سنوات الخمسينات يوم كانت المبيدات الحشرية في اعلى مجدها باعتبارها من اسلم المواد المستخدمة للتخلص من بلاء الحشرات وللحفاظ على الغذاء. في العراق وقبل عهد الـ (دي دي تي) كنا نتخلص من الذباب والبعوض الناقل للملاريا في البصرة باستخدام (الامشي) وهي مادة كانت تنتجها شركة النفط الانكليزية في العراق ( (BP وكنا نرش (الامشي) بمضخات يدوية في الغرف والمطابخ، ثم حل الـ (دي دي تي) في الخمسينات فاحدث فرحة مابعدها فرحة فاستخدم في الزراعة على نطاق واسع وكان الناس يرونه المادة المسالمة والسليمة. بدأت في استخدامه في حديقة بيتي في بغداد لاكثر من عشرين عاما، وكان ذلك من اسوأ السيئات التي قمنا بها، وكنا نستخدم الـ (دي دي تي) في المطابخ نلاحق به الذباب، والقدور على الطباخ تغلي مكشوفة الغطاء فاخذت مادة الـ (دي دي تي) تجتاح اجسامنا فمات منها من مات ببلاهة ولاتزال تسبب لنا العلل.

في النصف الثاني من القرن العشرين اصيب الانسان بداء الزهو من خلال الانجازات التكنولوجية التي حصل عليها، الكومبيوترات، التلفونات القافزة، التلفزيونات غدت رقيقة بالتعريف العالى، اجهزة من المسارقات التي تقطع الجسم الى شرائح التي تسهل قرائة الامراض، رحلات الى الفضاء واشياء اخرى لاتعد ولاتحصى، بيد ان الزهو كشف عن ان الماء الذي نشربه ملوثا بالمعادن والاسبستات والمكروبات والهواء الذي نستنشقه ملوثا بالعوالق المنبعثة من المداخن ومخارج السيارات، القنابل العنقودية، النفايات النووية، نفايات الصناعة التي رميت في البحار والمحيطات. اما الغذاء الذي نأكلة نحن ابناء هذا العصر الحديث المتقدم فهو غذاء محمل بالكيمياويات المسرطنة. الانسان في عصر فوق الحداثة اصبح يتنفس هواء ملوثا ويشرب ماء ملوثا وطعاما ملوثا فهل من سفينة نوح تنقذنا من هذا الطوفان. توما شماني - تورونتو

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved