الرِّحلةُ الأولى إلى الجزائر

2016-07-25
ما كنتُ لأستعيدَ ذكرى رحلتي إلى الجزائر في العام 1964، لولا  سيِّدةٌ أميركيةٌ من أصل إيرلنديّ، اسمُها آن- ماري.
هذه السيدة تدرِّسُ الأدب العربي الحديث، في جامعة جورج واشنطِن، بسانت لويس، غير بعيدٍ عن شيكاغو .
قبل أشهر اتّصلتْ بي آن-ماري، من الولايات المتحدة، كي ترتِّبَ موعداً للقائي في منزلي بلندن .
قالت لي آنذاك إنها مهتمّةٌ بتجربتي المهنيّة في الجزائر التي وصلتُها بعد الاستقلال بعامَين، أي في العام 1964 .
استفسرتُ من صديقي سنان أنطون الأستاذ بجامعة نيويورك، عن السيدة، فأعلَمَني عنها بما يسِرُّ . قال إنها تجيدُ العربية، وتتابع كتاباتي منذ أعوام، وإنها مثابرةٌ ذاتُ دأبٍ وصبرٍ.
قبل أيامٍ زارتني آن- ماري .
السيدةُ صدقَتْ وعدَها .
سألتُها بأي لغةٍ تفضِّلُ أن يكون حديثُنا ...
قالت : كما تشاء. لكني أفضِّلُ العربيةَ !
*
استمرّ الحوارُ بيننا حوالي ساعاتٍ أربعٍ، وكان يدور حول محورَين :
الحياة الثقافية والتربوية في الجزائر المستقلّة حديثاً .
أسلوبي في كتابة الشِعر .
*
بعد الحوار الطويل ، هبط المساء ، وكان عليها أن تغادرِ إلى بيت أهلِها في منطقة ريدنغ ، وهي ليست قريبةً من هيرفيلد حيث أقيم . أوصلتُها بالسيارة إلى محطة مترو أكْسِبْرِدج .
في الغد سوف تذهب إلى باريس .
*
في العام 1964، كنت مطلقَ السراحِ حديثاً، من السجن .
ولأنني أعرفُ تماماً أن عيشي سيكون نكداً، دبّرتُ جوازَ سفرٍ شبه مزوَّرٍ، وغادرتُ برّاً إلى دمشق، ثم إلى بيروت . هناك سكنتُ قريةً  يتجنّبُها الناس، لأنّ فيها مستشفى شهيراً للمسلولين : مستشفى بْحَنِّسْ .
كلفةُ السكن والعيش في تلك القرية كانت زهيدةً، مقارنةً ببيروت .
لكني كنت أذهب إلى بيروت لألقى من أودُّ لقاءه من أهل الأدب .
كان لي صديقٌ عراقيٌّ  سبقَني إلى العمل في الجزائر، وكانت رفيقته فرنسيةَ الجنسية من أصل فييتنامي،
تدرِّسُ اللغة الإنجليزية .
هذا الصديق نصحني بالمجيء إلى الجزائر، والعمل في التعليم، إذ كانت الحاجة ماسّة إلى الكادر التعليمي .
وهكذا كنت راكب سفينةٍ رستْ في الأسكندرية . 
من الأسكندرية استقللتُ حافلةً إلى ليبيا ، فتونس .
من تونس بالقطار، إلى الجزائر العاصمة، مروراً بقسنطينة .
في محطة قطار الجزائر العاصمة كان صديقي ( ناظم ) يستقبلني مع رفيقته الفيتنامية .
*
بعد أيام، اتصلت بالحزب الشيوعي الجزائري . كان في  صحيفة " الجزائر الجمهورية "
Alger Republicain
وهي صحيفة الحزب، الرفيقان عبد الحميد بن زين، وبو علام خلفه .
هنري أليغ كان في فرنسا .
*
قيل لي في الصحيفة إنهم سيوصون رفيقاً لهم في وزارة التعليم الجزائرية، لتيسير أمري .
ذهبتُ إلى الرجل، وأتذكّر أن اسمه حِمراس . قال لي ضاحكاً :
سأرسلكَ إلى بلديّةٍ شيوعيّةٍ .
إلى سِيدي بلعباس، في الغرب  الوهرانيّ .
*
وإلى سِيدي بلعباس  بالقطار !
هناك، في تلك المدينة البهيّةِ، في السهل الوهرانيّ الخصيب، ذي الفواكه والأعناب،
أمضيتُ سنين سبعاً .
*
قد أتحدّثُ إلى آن - ماري بكل شيء عن الثقافة والتعليم آنذاك .
لكن ما خفِيَ كان أعظمِ :
قصيدتي دخلت، هناك، مدخلاً ما .
لقد اختلفتْ عمّا كنت أكتبه في العراق !

29.11.2015 لندن

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved