ولد الشاعر الكردي الكبير في عام ألفٍ وتسعمئةٍ واربعة 1904 م في حلبجة التابعة لمدينة السليمانية ،التي تقع بمحاذات الحدود الإيرانية، عن عائلة عرفت بأنها تعنى بالأدب والتراث، فكان والده وجده يجيدان الكتابة باللغتين الكردية والفارسية، وملمين بالأدب والشعر كمثقفي تلك الحقبة، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين .
تنحدر عائلة الشاعر من سلالة ( ميران بكي ) من منطقة مريوان الإيرانية، غادر احد أجداده ( عناية الله بك ) مريوان مع أسرته إلى قرداغ في السليمانية، وبعد استقرار قصير في قرداغ توفي عنايت الله بك تاركاً ابنه عبد الله بك (جد كوران ) فاتجه جد الشاعرهذا، ليعيش مع عائلته في حلبجة . بما أن الإنغماس في علوم الدين كان التقليد الإجتماعي السائد في القصبات والقرى فقد تعلم عبد الله الصغير تلاوة القرآن على يد والده وتعمق في أسرار العلوم الدينية في جامع ( الباشا ) في حلبجة، وكان القرآن وعلوم الدين هي الثقافة الأساسية التي اغترف منها، وبسبب ذلك لقب بالفقيه عبد الله، ثم بدات المدارس الدنيوية بالظهور إلى الوجود فدرس عبد الله كوران في مدرسة تركية عثمانية ثم انتقل وهو في الصف الرابع الإبتدائي إلى مدرسة أنشأها البريطانيين بعد الإحتلال، وبعد مقتل أخيه الذي كان بعد رحيل والده بعامين، بقي عبد الله وحيداً مع امه مما اضطره إلى ترك الدراسة لإعالتها، وبذا عانى لمدة أربعة سنين من مرارة العوز وتَعب ِ البحث عن عمل إلى ان عُين معلماً في مدرسة حلبجة عام ألف وتسعمئة وخمسٍ وعشرون، واستمر في عمله كمعلم لمدة إثني عشر عاماً، أي حتى عام ألفٍ وتسعمئة وسبعٌ وثلاثون حيث انتقل للعمل كموظف في دائرة الأشغال .
عبد الله كوران بين شفافية الشعر وقسوة النضال
غادر الشاعر مع مجموعة من المثقفين الكرد إلى يافا في فلسطين حين اندلاع الحرب العالمية الثانية وساهموا في المعركة ضد الفاشية وكان لهم دور كبير في إذاعة الشرق الأدنى في يافا . ثم عاد إلى وظيفته في دائرة الأشغال بعد هزيمة النازيين ولم يستقر في وظيفته كثيراً حيث حكم عليه في عام الف وتسعمائة وواحد وخمسون بالسجن لاول مرة في حياته وبقي وراء القضبان حوالي السنة وبعد أن أطلق سراحه عاد إلى السليمانية ليعمل بالصحافة وأصبح رئيس تحرير جريدة الحياة الكردية لمدة عامين وحتى القي عليه القبض بتهمة نشاطه مع مجموعة انصار السلام، فحكم عليه لمدة سنة واحدة تنقل خلالها بين عدة سجون، فمن سجن السليمانية الى سجن كركوك ثم سجن الكوت وبعقوبة ونقرة السلمان وبعدها نفي إلى قضاء بدرة الواقع على مقربة من الحدود الإيرانية .
وعندما اطلق سراحه في عام الف وتسعمئة وست وخمسين توجه إلى بغداد، وبعد المعاناة من العوز والبطالة مجدداً عُين مراقباً للعمال في احد مشاريع البناء، ولكن لم يمكث في هذا العمل سوى بضعة أيام حتى اندلعت اوسع مظاهرة جماهيرية احتجاجا على العدوان الثلاثي الأنكلو -فرنسي - إسرائيلي على مصر، ولدور الشاعر كوران ونشاطه ضد هذا العدوان، القي عليه القبض وحكم بالسجن لمدة ثلاث سنوات واودع سجن كركوك ثم رحل إلى سجن بعقوبة الذي احتضن المئات من بينهم قادة بارزين لاحزاب ثورية وبعد ان قضى اقل من سنتين في السجن قامت ثورة الرابع عشر من تموز الف وتسعمئة وثمانية وخمسين واطلق سراحه إسوةً بباقي السجناء السياسين .
وبعد ان عادت اليه حريته عادت إليه فاعليته في العمل السياسي بعنفوانٍ أشد فتنقل من نشاطٍ إلى آخر، فمن نقابياً نشطاً في نقابة المعلمين إلى رئيسا لتحرير مجلة شفق ومساهماً فعالاً في النشاط الإجتماعي، لكن نشاطه هذا لم يرق لاعداء الحرية واعداء الفكر التقدمي فطرد من عمله في دائرة الإسكان في السليمانية بحجة تغيبه عن الدوام، في حين انه كان في مشاركة فعالة في مؤتمر المعلمين الكرد في شقلاوة .
ومرة أخرى يغادر كوران السليمانية متجهاً إلى بغداد حيث يجد بانتظاره التكريم الذي يستحقه وعين أستاذاً للأدب الكردي والنقد الأدبي في كلية الآداب في جامعة بغداد وذلك كان مترافقاً مع عمله كعضو في هيئة تحرير جريدة الحرية الكردية . وما ان وصل الشاعر إلى مرحلة التكريم والعمل في المجالات التي يستحقها حتى بدأ يعاني من المرض العضال الذي بدأ يسري في جسده، وما أن بدأ انتصار الأورام الخبيثة يتفاقم، حتى حمل الشاعر أمتعته إلى السليمانية ليكون وداعه الاخير لحياة مليئة بالنضال والسجن والمنفى وذلك عام الفٍ وتسعمئة وإثنان وستون، وكان الشعر هو النسيج المصاحب لكل حياته بكل عطائها وامتلائها وخصوبتها على الصعيد السياسي والأدبي ....
نوروز
البنفسجة المختبئة تحت الشوك
فتحت عينيها السوداوين فرأت
حقل النرجس، بألف لحظ
يضحك، اصفر أبيض !
النرجس المستحم بالشمس الدافئة
كان يحمل بشرى للبنفسجة
قال : أختاه، أختي الجميلة ذات العيون المليئة بالحياة،
باب الدار موصد
ولماذا الدموع في عينيك تنهمر ؟
إنه الربيع
من على القمم البيضاء يظهر
شعاع وتألق الياقوتة الحمراء
مشاعل نيران بداية العالم الجديد ! ..
البنفسجة الخجولة ذات العيون السود
بدأت بالغناء !
بانطلاق وبلا تردد
من وخز خنجر العدو
رمت بنفسها في حضن باقة الورد ..
وردة البنفسج المنزلية تحت الشوك
عندما وصلت ليدي المتلهفة،
امتلأت من عبيرها أنفاسي،
وسكبت وشوشة العطر في مسامعي
ولبشارة: أقبل .. نوروز ! أنبأتني
إيه أيها العيد الذي اقبل، ومضت
عن الفم، مرارة، عام انقضى !
ياعيداً لإلوف الأعوام الخوالي
من ماضي الكرد المرير القاسي،
كنت أنت وحدك : عيدهم وربيعهم !..
من الأحزان القديمة، والآلام القديمة
من جراح وصديد أيدي الطغاة القدامى
ابعدتنا سنة اخرى
ومن هناك العيد الجميل
بمقدمك تقدم الركب،
حولاً كاملاً نحو الفجر !
اي : لنقطع الطريق مسرعين
لينتهي الليل سريعاً قبل عام
ذلك الليل مشاعل الشعوب،
تحرقه وتأتي على كيانه
من كل ارجاء الدنيا،
إلى أن تذرو رماده
رياح الحريق ..
حتى يتساقط غباره على
صفحات التاريخ، كتناثر
ذرات التراب المنتشرة .. !
حينذاك، نوروز،
أيها العيد السعيد !
من حزن يتساقط الشوك ومن كمد،
ويصير سماداً لتربة الورد !
وأنت ومهرجان ربيعك
والوان قممك وغاباتك،
في روضة أزهار الشعوب
تغدو وردة في الميدان ..
كل انسان يبصرها ويشم عبيرها،
يهتف :عاش نوروز الكرد .
قصة إخوة
أخي العربي !
لمع سيف وغرق بريقه في دماء
سالت من عنق أبي ..
من عنق أبيك
على تراب التاريخ
وفجعنا كلانا، بأبوينا
الهموم تعصر أعيننا قطرة فقطرة
فتعانقنا وبكينا معاً
فجعل البكاء منا أخوين
أما رجال العتمة
ذوو الرؤوس الملأى بالأفاعي
فقد أخذونا من أيدينا
إلى سفح شجرة الألم
وشدوا الطوق في أعناقنا
وفي يد كل منا، دسوا معولاً
والوعيد كان سوطاً يتحرك فوق رؤوسنا
وسخرنا لحفر الآبار
وهناك تحت شجرة الألم
تلاحمت أخوتنا
فتهامسنا وسمينا شجرة الشوك تلك
أخوة العرب والكرد
أخي العربي إن أردنا أن تقطف أخوتنا
ثمارًا حلوة من الشجر
إن اردنا أن تتفتح حريتنا
عن أزهار كحدائق الربيع
أن أردنا أن يكون عامنا أبداً أزهى من كل عامٍ غابر
وأن لا تصل إلينا أبداً يد الظالم الآثمة
فعلينا .. من طيب نوايانا
أن نسلك طريقاً سوياً
صوب الأفق المضاء
وعلينا ككل شعوب الأرض أن نسير
حيثما الشعلة البيضاء تجنح
على أجنحة حمام وادع
حيثما تطوي الشعلة الأفق الأزرق
ألى هناك نطير على جنحي كلمة طيبة
وتضئ الشعلة دربنا
وتضئ .. وسنشدو بأمانينا
لأمانينا ونغذ السير
للهدف الزاهر بأعذب أمانينا
طفلُ بلا أم
اوان الغروب : في سماء الأصيل
تتلألأ نجمة، وضاءة، عذبة
يغمرها محيط من الزرقة، وحيدة
تتأمل دنيا السماء !
في ألقها أثر من العيون الشهل
وفي ارتعاشها بسمة الشفاه القانية
وكالوردة التي تزين بها حسناء شعرها
لا ترتوي من النظر إليها العين الرانية ؟
وأنا واحد من هؤلاء الناظرين
قلبي أسير هذا الجمال المسائي، أقف قبالتها على تلٍ
ويظل انتباهي الثمل مشدوهاً ببسمتها
يقبل الظلام .. ونجوم أخرى
ترمي خمارها في وجه الدنيا تباعاً
أما هي فرويداً تنزلق، خافتةَ تصل طرف السماء
وشفاه الأفق الظمأى كالقطر ترتشفها
فتموت -يالهفي- صريعة الأفول!
في أية روح لا تهيج الألم
هذه النجمة وسيرتها الحزينة