إنه لمفيد أن نعرف شيئا عن أخلاق الأمم المختلفة حتى يكون حكمنا على أخلاقنا أصح، وحتى لا نظن أن كل ما خالف عاداتنا هو سخرية ومخالف للعقل". -ديكارت: المقال على المنهج-
يعود أصل هذه الأطروحة في العصر الحديث إلى الفيلسوف والاقتصادي البريطاني جون ستيورات ميل(1806- 1873) حيث يقول: إن البشر جميعًا لو اجتمعوا على رأي، وخالفهم في هذا الرأي فرد واحد، لما كان لهم أن يسكتوه، بنفس القدر الذي لا يجوز لهذا الفرد إسكاتهــم حتى لـو كانت لــه القـــوة والسلطة؛ وذلك لأن رأيه إن كان صائبا، فهم يحرمون أنفسهم من التعرف على الحق، فلا يتمكنوا من استبدال الخطأ، والتوصل للصواب، وإن كان رأيه ذلك خاطئًا، فإنهم سيخسرون الإدراك الأكثر وضوحًا عن الحقيقة، التي نتجت من خلال صراعها مع الخطأ .
إننا إذا أسكتنا صوتاً فربما نكون قد أسكتنا الحقيقة، وإن الرأي الخاطئ ربما يحمل في جوانحهِ بذور الحقيقة الكامنة، وإن الرأي المجمع عليه لا يمكن قبوله على أسس عقلية إلا إذا دخل واقع التجربة والتمحيص، وإن هذا الرأي ما لم يواجه تحديًا من وقت لآخر فإنه سيفقد أهميته وتأثيره .
وهذا ما جعل الغزالي يتقحم كل ورطة، ويتفحص عقيدة كل فرقة، ويستكشف أسرار مذهب كل طائفة، وذلك حتى يميز بين محق ومبطل، ومتسنن ومبتدع، يقول في المنقذ من الضلال:
لا أغادر باطنياً إلا وأحب أن أطلع على باطنيته، ولا ظاهرياً إلا وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته، ولا فلسفياً إلا وأقصد الوقوف على كنه فلسفته. فجمعت تلك الكلمات، ورتبتها ترتيباً محكماً مقارناً للتحقيق، واستوفيت الجواب عنها، حتى أنكر بعض أهل الحق مني مبالغتي في تقرير حجتهم، فقال: هذا سعي لهم، فإنهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بمثل هذه الشبهات لولا تحقيقك لها، وترتيبك إياها .
فلمعرفة الحقيقة، لابد من منح الحرية الكاملة للرأي المتناقض مع رأينا، ثم العمل على دحضه، وما من شروط أخرى يمكن بموجبها لأي مخلوق ذو قدرات إنسانية أن يمتلك ضمانا عقليا من كونه على صواب . فالإنسان قادر على تصحيح أخطائه من خلال المناقشة والتجربة، ولابد من المناقشة ليتبين كيف تفسير التجربة، لأن الآراء والممارسات الخاطئة ترضخ بالتدريج للحقيقة والجدل .
إنه في حالة وجود شخص ذو أحكام تستحق الثقة فعلا، فإنه إنما بلغ ذلك، بسبب كونه أبقى عقله مفتوحا للنقد الموجه لآرائه وسلوكه، ولأنه دأب على الاستماع لكل ما يمكن أن يقال ضده، ليستفيد منه بأكبر قدر ممكن، لأن الطريقة الوحيدة التي يستطيع الإنسان من خلالها أن يحرز بعض التقدم في معرفة موضوع معين بشكل تام هي الاستماع لما يمكن أن يقال عنه من قبل الأشخاص الآخرين الذين ينتمون إلى جميع الآراء على تنوعها، ودراسة كل الأساليب التي يمكن من خلالها النظر إلى ذلك الموضوع؛ فلم يحصل قط رجل حكيم على حكمته عبر أي أسلوب غير هذا، ولا تسمح له طبيعة العقل البشري بأن يكون حكيما بغير هذا الأسلوب .
فبينما يعتقد كل الناس أنهم غير معصومين، نجدهم في الوقت ذاته لا يتخذون أية احتياطات أو تدابير احترازية ضد قابليتهم للخطأ، ولا ينظرون إلى أن الآراء التي يشعرون أنهم متأكدين منها، قد تكون هي الضلال بعينه؛ فهم يرون جماعات بشرية في مختلف العصور والأماكن تعتقد معتقدات مخالفة لما يعتقدونه، وبالرغم من ذلك تجد أحدهم لا يتردد ساعة في التفكير في أن الأسباب التي جعلت منه كاهنا في لندن، هي نفس الأسباب التي كان من الممكن أن تجعل منه بوذيا أو كونفوشيوسيا في بكين .
إننا مازلنا بعيدين عن الحقيقة، ولكن يجب أن نتأكد من أننا قمنا بأفضل ما تسمح لنا به الحالة المتوفرة التي يقر بها العقل البشري، ولم نهمل أو نغفل شيئا يمكن أن يعطي للحقيقة فرصة الوصول إلينا..
لو أُبقيت النوافذ مفتوحة، سنأمل أن تكون هناك حقيقة أفضل، وسيتم إيجادها عندما يكون العقل البشري قادرا على تلقيها، وفي غضون ذلك يمكننا الاعتماد على حصولنا على طريقة كهذه للوصول إلى الحقيقة، كما هو ممكن في يومنا هذا...
هذا هو مقدار التأكد الذي يمكن للمخلوق غير المعصوم من الخطأ أن يحصل عليه، وهذه هي الطريقة الوحيدة للحصول عليه .