السيف والقلم ...

2016-08-24
شوارعُ باريس، آنَ كنتُ أذرعُها، ظلّتْ تتقاسمُها طائفتان :
أهلُ السيف، وأهلُ القلم .
أي أنها تختلف عن شوارع نيويورك التي لا تحملُ سوى الأرقام أو أسماء ولايات الولايات المتحدة .
في باريس، أمّةٌ تتباهى بقادة جيوشِها، وبقادةِ عقولِها .
لكن شوارع نيويورك لا تجد من تباهي بهم، أو ما تباهي به . أو أن أهل الشأن فيها ( الأغنياء حتى الفُحش )  غيرُ مَعنيّين بمن هم خارج الدائرة المصرفيّة .
ذلك لأن الولايات المتحدة، خليطٌ غير متجانسٍ من أممٍ  مهاجرةٍ، وليست أمّةً ذاتَ هويّةٍ .
أقولُ هذا، بعد تَطوافٍ، ومعاشرةٍ ، وتأمُّلٍ .
في باريس تجد شوارعَ ودروباً وساحاتٍ تتباهى بإميل زولا وفولتير وأراغون  ...
لكنْ، ألدى نيويورك، مثلاً، ما تباهي به الأمم ؟
*
ما قلتُه توطئةٌ .
فلسطين، التي استُشهِدَ من أجلِها، عشراتُ الالاف في أي بلدٍ عربيٍّ، تظلُّ في الضمير .
مرةً، في القاهرة، في أيام الثقافة الفلسطينية، قال أبو عمّار :
في كل قريةٍ مصريةٍ شهيدٌ من أجل فلسطين .
كنت في القاهرة آنذاك .
وكان محمود درويش .
*
في 1988، في الجزائر العاصمةِ، أعلنَ أبو عمّار، الدولةَ الفلسطينيةَ .
محمود درويش كتبَ نصّ الإعلان المهيب .
كنت هناك، واقفاً مع إدوارد سعيد، ننصتُ إلى أبو عمّار .
*
في 2004
قُتِلَ أبو عمّار في مستشفى فرنسيّ ، مسموماً  بما يقتل فيلاً .
*
في التاسع من آب 2008
قُتِلَ محمود درويش في مستشفىً بالولايات المتحدة .
*
مساء التاسع من آب ( أغسطس ) 2008 كنت في برلين . كانت الساعة حوالي السابعة . صيفٌ ألمانيٌّ .
في الرصيف التابع للمقهى زبائنُ يدخنون سجائرهم . أنا أنظرُ عبرالزجاج إلى الرصيفِ وأهلِه . جاءتْ جوان ماكنلي بكأسَي جعةٍ كبيرتين . ما زلتُ أنظرُ إلى الشارع عبر الزجاج . مددتُ يدي إلى كأس الجعة فارتدّت .
كنت أحسُّ بإحباط وإنهاك، وبين لحظة وأخرى تعتريني رجفةٌ خفيفة .
قلت لجوان : أنا أرتجف برداً .
لم نكن في مهبٍّ للريح . لكنّ برداً قادماً من سيبيريا ما كان يدخل إلى المقهى ليُرعدني وحدي .
تلك الليلة، لم أقوَ على العودة إلى شقّة ابنتي شيراز في ضواحي العاصمة الألمانية، فأويتُ إلى شقّة جوان لأنام كمداً .
* عدتُ في الضحى العالي إلى ابنتي .
قالت لي إن اسماعيل خليل ( المسرحي ) اتّصلَ بي، منتصفَ الليل .
- هل قال شيئاً ؟
- كان يريد أن يخبرك برحيل محمود درويش .
*
إذاً ...
في حوالَي الساعة السابعة من مساء التاسع من آب ( أغسطس ) كان محمود درويش، يُقتَلُ، في مستشفاه الأميركيّ .
هل كنت أحاول الاتصال به، وأنا في المقهى ؟
هل مرقتُ في خطفةٍ  أمام عينيه الغائمتَين ؟
لقد كنا في باريس، في السابع من حزيران هذا .
جاء إلى أمسيتي بمسرح الأوديون .
لكنه قال لفاروق مردم ألاّ يخبرني بأنه هناك .
التقينا بعد انتهاء الأمسية .
قال لي : أنا راحلٌ غداً .
هل حملتْ كلماتُه هذه، الأقصى ممّا يمكن أن تحمل ؟
هل كنا نقول : وداعاً ؟
*
قالت لي منى أنيس : كان محمود يودِّعك ...
*
فلسطين اليوم، كما أراد أعداؤها :
لا سيفَ
ولا قلم ...

لندن 14.12.2015


سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved