التقاسيم هي عمل موسيقي يعزف بشكل ارتجالي وهي قالب من قوالب الموسيقى الشرقية إن لم يكن أهمها وأصعبها . وتأتي أهمية هذا القالب من كونه يعتمد على المخزون والموروث الموسيقي لدى العازف، كما يعتمد على الكم الهائل من الجمل الموسيقية المحفوظة في ذاكرة هذا المؤدي، بالاضافة الى إلمامه بالمقامات وفهمه لأجزائها الدقيقة، وخصوصية كل مقام على حدة، لكون المقام والتقسيم وجهين لعملة واحدة . هذا من جهة، ومن جهة أخرى لاحتواء التقاسيم على معظم أشكال تقنيات العزف التي يؤديها العازف بالإضافة إلى الأشكال الإيقاعية المتنوعة، وخصوصية كل آلة تستخدم في التقاسيم سواء كانت آلة نفخ أو آلة وترية تجر بالقوس أو تنقر بالريشة .
الحقيقة أن التقاسيم ظاهرة فنية بالغة الأهمية، فهي تمثل الاندماج التام بين الحرية الفردية والعرف الموسيقي، وبين الابتكار التلقائي والارتباط بالتقاليد، فيقوم العازف أثناء التقاسيم بالتعبير عن أصدق مشاعره شريطة ألا يكون مقلداً لطريقة غيره من العازفين، فبطريقته الخاصة يمكنه أن يقدم ألواناً من الأداء المعتمد على مقام معين ينتقل منه الى مقامات أخرى ويحافظ من خلال ذلك على التجانس والعلاقة الفنية بين مقام ومقام آخر، كما يحافظ على وحدة الموضوع رغم آنيته، وهذا بحد ذاته شكل فني يحتاج الى قدرات كبيرة لتحقيقه .
وهذا النوع ينطلق فيه خيال العازف لا تحده حدود ، فهو مسير بوحي من مزاجه وشعوره بالجو النفسي متأثراً بالمقام الذي ينهل منه ، والواقع أن هذه التقاسيم بكل حرياتها المطلقة تمثل أرفع اختبار لبراعة العازف التقنية وأصعب امتحان لمعارفه النظرية ، فهو مطالب أن يبتكر جملاً لحنية يتصرف فيها بالتجوال من مقام الى اخر بتحويلات شيقة ومبتكرة ، متجانسة أو متقابلة بطابعها الفني ، وهو مطالب بعد رحلته عبر المقامات بأن يعود الى المقام الأصلي عودة مقنعة ومحبوكة ، فالفنان العازف يستند في التقاسيم الحرة الى تقاليد ترسم له إطار الأداء ، كما أنه يهتدي بذوق جيله وعصره في تصرفاته المرتجلة .
والعرف السائد والتقاليد الفنية المتوارثة هي التي تحدد الى حد كبير أفضل القفلات الموسيقية في المراحل المختلفة من أي تقاسيم ، وهي التي تحدد اللحظة المناسبة للتحول من المقام الأساسي ، بل وتحدد دائرة معينة من المقامات هي التي يحصل التحويل في إطارها عادة وإن اختلفت وسائلها . فالتقاسيم فن ذاتي وشخصي في تعبيره ، وهو وثيق الارتباط بالحالة الشعورية للفنان في لحظة معينة وفي ظروف بيئية معينة ، كما يقوم المستمعون بدور لا يستهان به في تهيئة الجو النفسي والمؤاتي للعازف في تطور العنصر الزخرفي الذي أصبح شيئاً أساسياً .
ظهرت التقاسيم بشكل ملحوظ في الوطن العربي في بداية القرن العشرين ، وكان ذلك على أيدي عدد من الموسيقيين المهمين الذين بدؤوا في إخراج الآلة الموسيقية من تبعيتها للصوت البشري ، لأن الآلة الموسيقية كانت في خدمة المطرب .
ولكون الموسيقى العربية كانت موسيقى غنائية بامتياز، فقد أدى ذلك الى طغيان الصوت البشري على حساب الآلة الموسيقية، ثم ظهرت حالة التمرد على الصوت فبدأت تؤلف القطع الموسيقية الخاصة بالآلة كالسماعيات واللونغا والبشارف والتقاسيم .. وكان أشهر المتمردين في هذا الأمر عازف البزق الشهير محمد عبد الكريم ، الذي أبدع جملاً موسيقية كانت جديدة وغريبة على الأذن العربية، كما ارتقى بالآلة وأخرجها من حالة التبعية للصوت الى آلة أثبتت وجودها كآلة قادرة على العطاء وإجبار الناس للاستماع لها .
كما أن الأخوين جميل ومنير بشير كانا أيضاً من الرواد في هذا المجال ، وأيضاً رياض السنباطي ومحمد القصبجي وسامي الشوّا وتوفيق الصباغ وفريد الأطرش الذي كان يفتتح حفلاته بتقاسيم طروبة على العود ليثير الإحساس عند الجمهور ويجبرهم على الإنصات للآلة، وغيرهم كثر.
وللتقاسيم بصفة عامة استهلال هادىء ورصين يستعرض فيه العازف المقام الأساسي أي المقام الذي تبنى عليه التقسيمة، وغالباً ما ينطلق من قرار المقام ومنطقته الوسطى منتقلاً إلى جواباته، ثم ينتقل الى مقامات من نفس العائلة، ما يفسح في المجال للتنويع. وعن طريق جمل وأفكار موسيقية واثقة يصل الى الختام في المقام الأساسي في قفلة ونهاية طروبة بعيدة عن التوتر بحبكة فنية متقنة.
في الموسيقى الشرقية لم نعرف أبداً نزعة تقديس المؤلف الموسيقي، ذلك التقديس الذي ينظر لإنتاج المؤلف الموسيقي على أنه تعبير نهائي لا يترك مجالاً لأي إضافات تلقائية مبتكرة من جانب العازف. ولعل أقدم أشكال الارتجال عند العرب كان ترتيل آيات القرآن الكريم.
كما أن انتقال الموسيقى الشرقية بالتواتر الشفهي كان له دور في تطور القدرات الارتجالية للعازف أو المؤدي، وفي نفس الوقت أدى بشكل آخر الى تحريف كثير من الأعمال الموسيقية بسبب الانحرافات المتتالية، كما أن الارتجال هو سمة العازف المبدع ، فهو لا يأتي من فراغ بل يعتمد على المخزون الموسيقي الهائل الذي يحفظه في ذاكرته. والارتجال ليس إظهار كل ما هو جديد على المستمع فقط ، بل هذا الجديد يكون جديداً حتى على العازف نفسه ، ولعل أهم ما في الارتجال عدم وجود جمل نمطية معروفة . وغالباً لا يمكن أن يرتجل العازف متى أراد، بل هناك أوقات وظروف تكون مهيأة ومحرضة للارتجال، وذلك متعلق بالعازف وحالته النفسية والجو المحيط به (كما أن للجمهور دوراً مهماً في ذلك ) حتى أن بعض الفنانين يقومون بما يسمى التحريض على الارتجال، كأن يقوموا بخلق أجواء خاصة مثل إطفاء الأنوار وإشعال الشموع وما إلى ذلك ظناً منهم أنه يساعده على الارتجال والإبداع. ومن أهم المتميزين في هذا المجال : جميل بك الطنبوري، ومحمد عبد الكريم، ومنير بشير.
وفي الختام فإن التقاسيم المرتجلة مرتبة عالية لا يستطيع الارتقاء إليها إلا العازفون الذين امتلكوا فوق القدرة التقنية والبراعة اليدوية، تملكاً من السكك المقامية، وتمرساً وثقافة وخيالاً موسيقياً خلاقاً .