لو لم يحدث في ليلة دخلة ماري أنطوانيت.. ما حدث!!

2008-02-28

كل مهتم في التاريخ قد قرأ بلا شك تفسيرات للتاريخ تجعل للفرد الدور الأول. تلك هي التفسيرات التي تؤكد أن في التاريخ"ابطالاًُ" أو "عباقرة" (1) يغيرون مجراه بفضل ما يتمتعون به من مواهب شخصية تفوق المالوف. فشخصية نابليون مثلاً غيرت مجرى تاريخ فرنسا وأوربا وربما العالم. وكم من الحوادث الفردية كان لها اكبر الأثر في توجيه التاريخ كله وجهة مغايرة ألم يقال (( إن انف كيلو باترا .........لو ......... كان أكبر قليلاً، لتغير وجه التاريخ)). الم يقال (( لو لم يحدث في ليلة دخلة ماري أنطوانيت ما حدث ، لما دفع الشعب الفرنسي ضريبة باهظة!!)). صاحبة المقولة الشهيرة "إذا لم يكن هناك خبزاً للفقراء .. لماذا لايأكلون البسكويت".

ألم تؤكد الوقائع ان اندلاع الحرب العالمية الأولى، ذلك الحدث الضخم الذي كان له تأثيره الهائل في كل العالم، بسبب مقتل امير؟!

كثير من يفسر التاريخ السياسي والحضاري على هذا النحو الفردي، ففي مجال السياسة يفعل الملوك والحكام كل شيء. ويتوقف سير الحوادث على رغباتهم ونزعاتهم الشخصية، وفي ميدان الحضارة، يظهر بين حين وآخر عباقرة - يرجح ظهورهم إلى محض الصدفة - فتتم على أيديهم أعظم الانقلابات في ميادين الفلسفة والعلم والدين.

والخطر الأكبر لهذا التفسير الأرستقراطي، هو انه ليس تفسيراً علميا على الاطلاق. ولو اخذنا به، لبدا كل شيء محاطاً بهالة من الغموض نعجز على النفاذ منها إلى ما وراها، ولَبدا لنا التاريخ خاضعاً للصدفة العمياء، فلا هو يقبل أن يُفهم في ماضيه، ولاهو يقبل أن يوجّه في مستقبله. أما كيف يقع الكثير في هذا الخطأ، فمرد ذلك إلى أن أفعال الأفراد تبدو للنظرة السطحية باهرة إلى حد أنها تحجب بجانبها كل التيارات الخفية التي مهدت لها، والتي يكون لها دائما أصل غير فردي. والبحث في هذه التيارات الخفية أشق وأصعب بكثير من تعداد مآثر الأفراد وأعمالهم، والزعم بأن التاريخ كله، والحضارة بأسرها، قد خضعا لتاثيرهم.

وفي مقابل الفرد الذي يوجه التاريخ، تأكيد أن للحضارة تيارها الخاص الذي يسير في طريقه مستقلاً تماماً عن كل تأثير فردي. وهذا التاكيد يجعل من الفرد أداة منفذة لقوة تعلو عليه وتتجاوزه إلى أبعد حد، ولايستطيع حيالها شيئا، بل يكتفي بالتعبير عنها. فإن بلغ هذا التعبير أقوى درجاته، قلنا عن مثل هذا الفرد إنه عبقري، وظننا أنه قد غير او يغير مجرى التاريخ... أو هكذا تاخذنا الاماني وتسرقنا الاحلام.

ان الكثير من احداث التاريخ ترسمها قيادات تعتمد على إرادة القوة لعجزها عن الحصول على مقياس الحقيقة وعجز الأفكار عن تغيير واقع موروث فالقوة هي العامل الحاسم في تحقيق الهدف والقائد يتوحد موضوعياً مع المرتكزات المادية ويصبح بالتالي رهين هذه القوة.

إن "تحتمس الثالث" لا يختلف عن "هولاكو" وصورة اخرى عنه " أتلا" وهو يجتاح أوربا بجموع الهون(2) وهتلر امتداد لفكرة توسعية كانت تملأ ذهن يوليوس قيصر. وان وصف " جون هامرتن" الإسكندر حامل مشعل الحضارة إلى أعماق الشرق(3). على حد زعمه متجاهلاً بواكير الفكر الديني الموحد في الهلال الخصيب وما سن من قوانين في العراق، والبراهمة وبوذا في الهند وكونفوشيوس ولاوتسي في الصين، ورفضه بأن الاسكندر مصاب بجنون العظمة. لن تكن خارج معادلة الفرد..الاستبداد.. الأداة.. التاريخ.

هذا هو التاريخ وهذه هي بعض صفحاته، إن لم تكن سوادها الأعظم، مسرح لنرجسية فردية مطلقة، فالتاريخ يعيد نفسه. وان شهد الكثير من المعلقين السياسين إن الفكر الانساني المتمدن كان له سحره الاخاذ، كما في طروحات وفكر روسو(4) مثلاً، والتي كان وقعها وصداها لا يضاهى في قوته، عندما كان مجتمعه يرزخ تحت نير الاستبداد، يقول روسو:" إن تخلي المرء عن حريته هو تخلّ عن صفته كانسان، عن حقوقه في الإنسانية بل عن واجباته؛ فليس أي تعويض ممكن لمن تنازل عن كل شيء. إذ أن تنازلاً كهذا مناف لطبيعة الانسان، وانتزاع كل حريته من إرادته هو انتزاع كل اخلاقية من افعاله. وأخيراً إنه لاتفاق باطل ومتناقض أن نشترط من جانب سلطة مطلقة ومن الجانب الآخر طاعة بلا حدود. اليس من الواضح اننا غير ملزمين بشيء نحو ذلك الذي يحق لنا أن نطالبه بكل شيء، ومن ثمّ: الا يقود هذا الشرط، الذي لا عوض له ولا بديل، الى بطلان الفعل؟ فأي حق يمكن أن يكون لعبدي قبلي، ما دام أن كل ما يملكه يخصني؟ وبالنظر الى أن حقه هو حقي فان هذا الحق الذي هو حقي وضدي يكون كلمة ليس لها أي معنى"(5).

فهل توقف شبق طغات التاريخ...، اختفت رموزه!!، تغيرت أبجديته!!

*****

الهوامش والمراجع:

د. فؤاد زكريا، الأنسان والحضارة، الناشر مكتبة مصر، دار مصر للطباعة،القاهرة، 1991، ص25.
أتلا ملك الهون 432-453م، غزا الإمبراطورية البيزنطينية واجتاح مدن إيطاليا وهاجم غاليا( فرنسا الحالية) انقرضت إمبراطوريته بعد موته.
ينظر، السير جون هامرتن، تاريخ العالم، القاهرة، ( د - ت)، الفصل 46.
جان جاك روسو ( 1712 - 1778م)، الفيلسوف المربي والمصلح الاجتماعي.. الذي اهتم بالطبيعة وبسعادة الانسان، وصاحب الكتاب النفيس" العقد الاجتماعي" الذي اعتبر انجيل الثورة الفرنسية، ولم يذهب نابليون بعيداً حينما قال:" لو لم يكن روسو ما حدثت الثورة الفرنسية". ووجد عشاق الحرية في كتابه - العقد الاجتماعي- كتابهم المقدس. ومن جمل الكتاب الشهيرة" ولد الانسان حراً إلا أنه مكبل في كل مكان بالأغلال"، واغلب ادبيات حقوق الانسان اقتبست طروحاته ومبادئه التي تضمنتها كتبه.
جان جاك روسو، في العقد الاجتماعي، ترجمة: ذوقان قرقوط، منشورات مكتبة النهضة،الطبعة الاولى، بغداد،1983، ص42-43.





 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved