ماذا كتب الزهاوي في اللَّذَّةِ و الألَم – 7 ­­­­­­­­­–

2021-12-10

سأبتعدُ في هذه الحلقةِ عن تنظيراتِ الزهاويِّ في الفيزياءِ وأدَعُهُ يُدخِلُك في بابٍ فلسفيٍّ مُلازمٍ للإنسانِ ما بقيَ حيّاً، بل هو خاصيَّةٌ تتعدّى بني الإنسانِ إلى الحيوانِ، ألا وهو موضوعةُ اللَّذَّةِ والألَم .

 

 اللَّذَّةُ والألَمُ مفهومانِ يشكِّلانِ باباً مهمّاً تناولتْهُ النظريّاتُ الفلسفيَّةُ والنفسيَّةُ والدينيَّةُ منذ القدم، ولهما تداخُلاتٌ في شتِّى فنونِ المعرفةِ الانسانية .  لقد ذهب بعضُ الفلاسفةِ اليونان مثل (افلاطون) وتلميذهِ (ارسطو) الى أنَّهما مشاعر فقط لا علاقةَ للجسدِ بهما، إلاّ ان (أبقراط) الطبيبَ الشهيرَ، وهو يونانيٌّ أيضاً فقد عزا الألمَ إلى اخْتلالٍ يحصلُ في سوائل الجسمِ الحيويةِ يُحِسُّهُ القلب .  لم يقل أحدٌ منهم بمسؤوليةِ الدماغ .

 

 

وفي قراءتي لشاعرنا العراقيِّ المُمَيَّزِ جميل صدقي الزهاوي، أقولُ أنه كان شغوفاً مطَّلعاً على ما قاله في هذا الموضوع مَنْ تقَدَّمَ من ذوي الفكر، إلاّّ أنَّه لا يقبلُ بسهولةٍ آراءَ الغيرِ، بل يتَّخِذُ مواقفَهُ بناءً على ما يعتقدُهُ ويتواءَمُ مع رؤاه، فإذا ما أيَّدَ، أيَّدَ عن قناعة، واذا ما رفَضَ، رفَضَ عن قناعة .

 

 في تعريفِ اللَّذَّةِ يُقِرُّ الزهاويُّ ما قاله بعضُ الفلاسفةِ على أنها ببساطة دفعُ الألَم .  يعني لولا أنك لم تدفع الألَمَ ما شعرت باللَّذَّة .  وعليه يقول لنا ان لذَّةَ النومِ إنَّما هي دفعٌ لِألم السهَرِ، ولذَّةَ الطعام إنَّما هي دفعٌ لِألم الجوع، ولذَّةَ الإرتواءِ دفعٌ لِألم العطش، ولذَّةَ جمعِ المالِ دفعٌ لألم الخوفِ من العوز، إلى غير ذلك من اللَّذّات، وأن الألَمَ كلما كان شديداً، كانت اللَّذَّةُ أكبر، فالشعورُ بالجوع إلى درجةٍ كبيرةٍ، يقود إلى لذَّةٍ أكبرَ حينما يُدفَعَ ذلك الجوعُ بالأكل .

 

 وإنّي لَأظُنُّ أنَّ الزهاويَّ ربما اطَّلعَ على تراثِ الفيلسوفِ اليوناني ابيقور (Epicurus)  او Ἐπίκουρος)) صاحبِ فلسفةِ الحديقةِ أو المدرسةِ الأبيقوريَّةِ الذي يقول أنَّ اللَّذَّةَ هي عدمُ الألمِ أو هي المحاولةُ لمنع الألَم .  وإذا كان شاعرُنا المفكِّرُ قدعرَّفَ اللَّذَّةَ على أنَّها دفعُ الألَم، فإنَّه يقتربُ من ابيقور حيث أنَّ دفعَ الألَمِ سيقودُ إلى (اللا ألَم أي عدميته) والدفع هنا يعني المنع .  بيد أن أبيقور ذهب أبعدَ مما كتب الزهاوي، إذ قال أن الإنسان مدفوعٌ غريزيّاً للبحث عن اللَّذَّة بمعناها الأسمى كغايةٍ لمعظمِ أفعالِ البشرِ لأنها الخيرُ، والسعيِ لتجنُّبِ الألَم لأنَّه الشرُّ، وهذا ما لم يَتَبَنَّهُ الزهاوي كما لم يَتَبَنَّ الابيقوريةَ في كل تفاصيلِها . وربما لا أكون مخطِئاً إن قلت أنَّ الزهاويَّ كان متأثِّرًا أكثر بما ذهب اليه عالمُ الرياضياتِ والفيزياءِ الفرنسيِّ، وأبو الفلسفةِ الحديثةِ (رينيه ديكارت) حين اعْتبرَ الْألَمَ اضْطِراباً ينتقلُ عبرَ الجهازِ العصبيِّ وصولًا إلى الدماغ .

 

 يقولُ الزهاويُّ في مخطوطتِه "المجمل مما أرى" ان اللذةَ سببُها المحافظةُ على قسمٍ من كهربائيَّةِ المجموعِ العصبيِّ، أو الزيادةُ في مقدارها في المخِّ مما يأتي عن طريق الأعصابِ المنتشرةِ في داخل الجسد .  امّا الألم فيفسِّرُه على أنه اضاعةُ تلك الكهربائية من المخِّ، وكلما كانت الإضاعةُ كبيرةً، كلما كان الألمُ شديداً، فالجريحُ يُضيعُ كهربائيةً بسيلانِ الدَّمِ من جُرحِه، فيأتي المخُّ مضطرّاً ليرسلَ قسماً من كهربائيتِه عن طريق الأعصاب إلى المكان الذي تسيل الكهربائيةُ منه إلى الخارج لكي يحفظ الموازنة، وهكذا فإنَّ نقصانَ الكهربائيةِ هذا من المخِّ يُعَدُّ اضْطراباً للمخِّ وذاك هو الألَم .

 

 إن الألمَ - يقول لك - يُمثٍّلُ  فقدانَ شيئٍ من الحياة، وكلما اشتدَّ الألمُ، كان ذلك دليلاً على زيادةِ ذلك الفقدانِ الذي يقود إلى الموت، ولن بكونَ هناك إحساسٌ بالألمِ عند النَّزْعِ حيث تضعُفُ الخلايا الحسّاسةُ فلا تقوى على وظيفتها، وكذلك حالُ المجموعِ العصبيِّ اذا تخدَّرَ، فإنه يفقد الاحساسَ بالألَم .

 

 إن شعورَ أصحابِ الآلام العصبية بالألم انَّما سببُه فقدان الكهربائية، يقول الزهاوي، وهو من الذين إذا تغيَّرَ الطقسُ عليهم يشعرون في نقاطٍ من اجسادهم بآلام مُبَرِّحةٍ تأتيهم متقطِّعةً، والشعور بالألم دليل على الحِسِّ بضياع تلك النقاط للكهربائية .

 

 ثم يواصل متحدثًا عن نفسه كمثال، وقد يمسُّني احدُهم في جهةٍ من جسدي فأحِسُّ بألمٍ في تلك الجهة، ولا أشك أنَّ كهربائيةَ المكانِ الذي قد مُسَّ اتَّحدتْ بكهربائية اليد التي لمسته فنقصت، فشعرت بالألم في ذلك المكان .

 

 وقد يحدثُ وانا ماشٍ في يومٍ قد تغيَّر فيه الطقسُ، أن يحدثَ ألَمٌ شديدٌ في قسمٍ من إحدى رجليَّ بغتةً، فلا أستطيعُ تحريكَها وأكادُ أسقطُ كأنَّ رجلي قد فقدت حيويَّتَها في ذلك الآن، ثم تعيدُ مَكِنَتَها، فأحسبُ أنَّ ذلك الألمَ قد حصل لِما أضاعَهُ ذلك القسمُ من رجلي من الكهربائية التي افلتتْ من أعصابهِ، متَّحدةً بكهربائية الجو المخالفةِ لها عند تغير الطقسِ، فأرسل المخُّ بطريق الأعصابِ مقداراً من الكهربائية إلى ذلك القسم يوازنُ ما أضاعه فتألمت .  وأرى أنَّ الأعصابَ مُفعَمةٌ بالكهربائيةِ فإذا خسرت قسماً منها، أعاضَها المخُّ حالاً ما خسِرَتْهُ ردّاً للموازنةِ وهذا هو الألَم .  والأعصابُ تُضيعُ عند اللمْسِ مقداراً منها إلاّ أنَّه طفيفٌ لا يُؤْلم .  وما الموتُ إلاّ فقدان السيّالِ الكهربائي من الجسد كله، وما النومُ الّا فقدان قسم منه في خلايا المخِّ بسبب فعّاليَّتِها وقتَ اليقظةِ، فيستعيضُ ما فقده بالراحة المتولدة من سكون المخ الوقتي .

 

 إن تفسيرَ الزهاوي لمفهوم اللَّذَّةِ والألمِ جاء تفسيراً ماديّاً بحتاً يكون الإحساس بهما جسديّاً مباشرة في زمن ومكان معينين، وهذا ليس بالغريب فهناك من الباحثين ممن نظر بهذا، ولكن الحقيقة أنَّ اللَّذَّةَ والالمَ مفهومان يتعدَّيان الجسدَ ليشملا العقلَ والروحَ، والشعورُ بهما حقيقةٌ واقعة .

 

 وربما كان هناك تفاضُلٌ وتفاوُتُ بين اللَّذّاتِ وبين الآلام، فمن اللَّذّاتِ ما يفوقُ بعضُها البعضَ، ومن الآلامِ  كذلك، لا بل أنَّ هناك من الآلام ما هو افضلُ من اللَّذّات اذا ما قادت تلك الآلامُ الى لذّاتٍ أكبر، وربَّ لذَّةٍ رافقها ألم، ورب ألمٍ رافقته لذَّةٌ،  وربَّ لذَّةٍ أورثت ألماً، وربَّ ألمٍ أورثَ لذَّة .

 

 إنَّ الشعورَ باللَّذَّةِ والألم، هو شعورُ نسبيٌّ يختلفُ نوعاً ودرجةً من شخصٍ إلى آخرَ ومن جماعةٍ إلى أخرى حسب الثقافاتِ والأعراقِ والجنس . فهناك من اذا حقق لذَّةً، حرصَ على تكرارِها وعمل جاهداً للحصول عليها ثانيةً، أو على أحسن منها، وهناك من له سلوك آخر .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved