عن مؤسسة شمس للنشر والإعلام بالقاهرة؛ صدر للقاص والرواوئي العراقي " علي لفتة سعيد " مجموعته القصصية الجديدة " مداعبة الخيال " في 104 صفحة من القطع المتوسط. تصميم الغلاف : محمود ناجيه.
"مداعبة الخيال" هي المجموعة القصصية الرابعة للمؤلف في مسيرته الأدبية التي بدأها في سبعينيات القرن الماضي، وهي الإصدار السابع له بعد ثلاث روايات متتابعة صدرت جميعها في بغداد.
تضم المجموعة سبع قصص قصيرة تركزت أغلبها على المدينة التي شهدت مسقط رأسه قبل نحو ثماني وأربعين عامًا.. والمجموعة محاولة لاستدراج الأثر إلى منطقة المخيلة؛ المخيلة التي تشبعت بطقوس مدينة تعيش على حافة الحاضر وتمد يديها إلى قلب الأحداث المشبعة بالحب والفقر والبساطة والعفوية.. مدينة لم تعشق سوى الإنسان، فخلفت أناسًا كان لهم أثر وكانوا رواتها؛ وإن لم يمسكوا أزميل الحفر على الرقيمات، أو يمسكوا قلمًا بأصابع ثابتة.
المجموعة استدراج لهم عاشه الكاتب قبل أن يبزغ فجره نحو العالم المخبوء خلف نهر الفرات، يوم كانت موجاته تحتضن النوارس، فأخذته الحروب من حضنها وحضن الفرات ورمته في دهاليز البارود ليختنق برائحة الموت، إلا إن قيامته لم تحن في الحروب، وحين خرج بمرق نحيف لم يجد قدميه في المدينة ذاتها.. غير أن رواتها وناسها وأبطالها الشعبيين ظلوا كما هم في ذاكرته الريانة، فكتب عنهم القصص التي دونت قبل عام 2003.
" مداعبة الخيال " استدراج لكل ما له صلة بهذه المدينة التي بقيت متعايشة لأنها تحب من يشم رائحتها.
• • • • •
علي لفتة سعيد
a_laftasaeed@yahoo.com
• كاتب وناقد وإعلامي عراقي من مواليد عام1961، في قضاء سوق الشيوخ بمحافظة ذي قار الجنوبية مسقط رأس السومريين ونبي الله إبراهيم، ومقيم حاليًا في كربلاء.
• عضو اتحاد الأدباء العراقيين
• عضو اتحاد الأدباء والكتاب العرب
• عضو نقابة الصحفيين العراقيين
• نشر العديد من القصص والقصائد والمقالات النقدية في المطبوعات العراقية والعربية، والمواقع الإلكترونية.
• نشر أكثر من 90 مقالاً نقديًا حملت عنوان ( بنية الكتابة ) وهي اجتياح نقدي جديد يتابع أثر المبدع إن كان شاعرًا أم قاصًا أم روائيًا أم كاتب مسرحية
• الإصدارات :
1. امرأة من النساء : قصص قصيرة، 1988
2. اليوبيل الذهبي : قصص قصيرة، 1989 ( حازت على الجائزة التقديرية )
3. بيت اللعنة : قصص قصيرة 1998 ( حازت على جائزة الإبداع العراقي في عام1998 )
4. وشم ناصع البياض : رواية ، 2000
5. اليوم الأخير لكتابة الفردوس : رواية ، 2002
6. مواسم الإسطرلاب : رواية ، 2004
7. مداعبة الخيال : قصص قصيرة. شمس للنشر والإعلام، القاهرة 2009
8. المئذنة : مسرحية من فصل واحد ، ( قيد النشر )
9. أنا وأنت والمدينة : قصص قصيرة ، ( قيد النشر )
- البريد الإلكتروني : a_laftasaeed@yahoo.com
• • • • •
ما لم يقله النهر
من المجموعة القصصية "مداعبة الخيال"
لم أعد أسمع شيئًا.. الأصوات التي تضرب أذني، الأفواه التي تنفخ في وجهي، الألسن التي تمتد لتنشر حروفها على ضوء الشمس.. ضاعت الصور أمام عيني الحمراوين، وأنا أقف مبهورًا أمام أطلال ينبش تاريخها في ذاكرتي باحثًا عن الماء لأرتوي حدّ الثمالة.
استمعت للآخرين عبر أفواهٍ قلقة، كان كل شيء صافيًا مثل ماء رقراق، أتوغل عميقًا إلى عالم طفولتي البريء؛ إلى ثنايا ارتعاشي الأولى، مفتشًا عن لحظةٍ مدفونةٍ في بطن الزمان تتحرك بعشوائية، مثل ذرة سالبة في وجه سالب، حتى لكأنني أرى أشجار مدينتي وقد تخلت عن الاخضرار، وتساقطت أوراقها في وحشة الليل، وتآكلت الأكتاف، وتحول التراب إلى أشواك عندما هربت المياه إلى مجرى آخر، ليبقى النهر يُطلق حسراته إلى النخيل التي أخذت تذرف دموعًا من الشمع، وعذوقًا أكلها الدود، وجذوعًا منخورة، واحدودبت ظهور الناس ألمًا وحسرة و.. لماذا تغير مجرى النهر؟
النهر الذي أحبته المدينة، تركها تمشي على أربع عكازات في اتجاهات متنافرة، حاول أن يسجل تأففات من استمع إليهم.. وجدها تزيد على كل أطرافهم.. الأفواه هاربة من الإجابة، والآذان لا تريد الاستماع، والوجوه صفر كالحة.. المدن المبنية على النهر تزدهر فيها الوجوه، ومدينته أصابها العقم.. هكذا رآها، ليجد نفسه خارج تاريخها الغافي على ذكريات غاية في الأناقة.. كان يمشي مزهوًا بين تواريخ المدن الأخرى.. حمل الكتاب ذي اللون الأخضر، وجاء إلى مدينته التي تركها مرغمًا في غفلة من عوز الحياة.
كان نهرها ذا عينين تجريان ماءً صار مالحًا فوق وجهه يندلق رذاذ الرمل، وثمة هدوء لظهيرة قائظة، يحيط برأسه.. والحفر تبتلع الرمال، لتشكل أكتافًا جديدة لمجرى يُغذي دود الرمال البعيدة.. ومرآة ذاكرته تزداد غبارًا. يركض على جرف النهر، يسابق الريح، وصديقه ذو الأنف الطويل والشعر الواقف يخاف النهر، وهو خائف أن يأكله (الرفش).. يضحك ويرش الماء عليه.. ويصعد راكضًا إلى الجنوب ليصطاد على جرف بعيد بعض السمك أو الديدان الصغيرة..
آه... آهتي لا تستطيع إخماد جذوة بدأت تتوقد.. ما الذي جاء بي إلى هنا لأسكن في دهليز مظلم من تاريخ أحمله بين يدي، تاريخ أشعر به أنه يمثلني من قبل، واختار مكاني لأيام ثلاثة بحثًا عمن يجيب على أسئلتي، سألت أبي:
- ما الذي تتذكره من المدينة والهجرة أكلت طيبتها؟
أوقد سيكارته وفرش كلماته الجنوبية ليلتقط الحروف:
- لم تكن إلا امتداد الذراعين.. تلمها متى تشاء، لتشعر بالدفء والبرودة معًا.
أتلقف كلماته الموجهة وأبي يشعل سيكارته الثانية.. ليبتلع الدخان ويبدأ بتعليب الكلمات في ثنايا ذكريات راعشة، أوهمها الرحيل إلى المجهول، لا مرآة له.. أخذ مكانه فوق تلة رملية متوسلاً بقناعاته أن تقبل تغير لون الرمال إلى تراب على حساب تراب مدينته، أيموت التراب ويتحول إلى رمال تطمر أسرابًا من أنسال تكاثرت من ظهور وخرجت من بطون ودفنت حبالها السرية بعد لحظة الطلق في مياه النهر؟ هل انتقل النهر طائعًا مطيعًا لحفارات عملاقة ليبقى قاعًا خاويًا إلا من أشواك وزبالة الباعة المتجولين وبول المتسولين وقناني السكارى.. ومياه راكدة حزينة على أمواجها الهاربة؟
أصغيت إلى أبي.. مفتوح العينين:
- كان النهر حنونًا على المدينة يملأ أواني القلوب بالمحبة.. وتزداد الوجوه نضارة كلما هبت نسمة ريح منعشة.. سحق عقب سيكارته، اقرأ الكتاب وأنت تعرف تاريخ المدينة.
كل شيء واضح في ذاكرتي إلا النهر، وكل شيء حزين على النهر والتاريخ الذي أحمله بين أصابعي ينتقل بين محطات متلألئة.. ليكون منارًا للباحثين عن نشوة انتمائهم، أغوص في أحزاني الجديدة التي تخز ذاكرتي برؤوسها الشوكية الحادة، أنظر إلى جسد النهر المكشوف الأضلاع، مُمعنًا في تجاويفه البارزة.. أصفن كثيرًا.. أتمعن.. أتلاشى، بينما كانت عيناي مثبتتين في بطن النهر الخاوي. سرعان ما يغتالني الوعي ويغيب رأسي داخل انتقالات وحوارات مثيرة.. يرى الماء يخرج فجأة.. بدأ رويدًا رويدًا يبتسم.. يفيض قلبه.. يصفق في قفصه الصدري.. يمد ذراعيه إليه، في بادىء الأمر يصعد مُبلِلاً حوافه اليابسة، يتجمهر الناس.
خرجت النساء من بيوتها كأنهن يردن السباحة. أو يرمين حبل سر الطفولة الجديدة في الماء كما هي عادتهن. والماء يزداد ارتفاعًا، يراه يفور في داخله تتراقص أمواج غير اعتيادية.. يمعن النظر.. إنه شبح الغضب الرمادي.. رآه كأنه ينهض من نومته الطويلة، يقف بقامته، وتوقف الجميع يأكلهم الذهول ينظرون إلى السماء، إلى قرص الشمس.. لم تكن الشمس تشكو كسوفها..
فجأة قال رجل كبير السن:
- إياكم ولعنته.. لأنه لا يصمت. تركتموه يئن في قاعه أسير حسراته، دون أن تذكروا فضله عليكم.. ها هو يفتح سلاسل قيده ليقول كلمته.
تتسمر القامات.. تلوذ الرقاب بدوران فاشل، وتتخمر العقول بانتظار من يفسر لهم ما يحدث أمامهم. خائفين من المجهول.. تحولت الضفاف المبعثرة إلى أرجل متزاحمة.. غير مصدقين غضب النهر. صرخ الرجل ذاته:
- لا تقفوا مكتوفي الأيدي لينتشر الجميع.. وليبدأ كل واحد منكم بحفر حفرة لينزل فيها الماء الغاضب.. انقذوا المدينة من الغرق.
نظرت إلى الرجل الكهل محاولاً استدراجه في الكلام.. تاركًا الآخرين يمسكون المجارف في عمل لخزن الماء داخل جسد المدينة المفتت، والكتاب تحت إبطي، وقبل أن افتح فمي قال:
- لا تتكلم.. ولا تسأل.. اذهب مع أبيك وانقذ المدينة.
خَجِلاً عاد.. مُشاركًا في ازدياد عدد الحفر التي سرعان ما امتلأت بالماء الذي أكل شاطىء النهر. والناس تعمل بسرعة؛ يخشون المكروه، حتى بدت له البيوت خالية من أجساد تتحرك بين جدرانها. صرخ الجميع بأطفالهم العابثين بالطين الجديد.. يلهون ببراءة لم يعهدوها من قبل.. أن يكفوا عن اللعب والبدء بالحفر فورًا.. وقف فوق تلة تطل على المدينة المكشوفة، رأى الأرض وقد صارت مثل فقاعات مفجورة، والناس يتحولون من حفرة إلى أخرى وما زال الماء ينبع من بطن النهر الفوار. وتحول العمل إلى ارتعاشة مخيفة وهم يتساءلون.. هل تكفي هذه الحفر الكبيرة التي تغطس فيها القامات لإقناع النهر أن يكف عن فيضانه؟. الحفر لا تتسع للمياه النابعة، والتقت الحفر الكبيرة والكثيرة مع بعضها، بل انهارت جدرانها بفعل قوة المياه.. سارعت إلى الشوارع وتحولت المدينة إلى أنقاض من حفر.
رفع قامته، هاله منظر المدينة، أغمض عينيه محاولاً عدم تصديق ما يراه.. لقد تحولت المدينة إلى حفرة كبيرة تتزاحم داخلها الأجساد الصارخة المتوسلة المتضرعة، وما زال الرجل الكبير يصرخ أن احفروا حتى تحت البيوت.. أعادني كلام أبي:
- ها.. إلى أين وصلت في صفنتك الطويلة؟
نفضت رأسي:
- لقد رأيت المدينة كأنها قبر كبير.
رمى عقب سيكارته في النهر وضاعت حروفه الجنوبية.. وتركني وحيدًا.. أتطلع إلى مرآة طفولتي التي تشظت..
تصفحتُ الكتاب ضجرًا ومتأملاً وجه مدينتي التي تقاوم جفاف جسدها بالدموع.