منارة تتحدى الزمن اسمها الحدباء

2014-02-03

 ا//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/f05f4740-ae42-4e5a-b4b2-4c16167bb90e.jpegنها ليست حكاية من حكايات الخيال العلمي، أوفلم من أفلام الكومبيوتر الحديثة وليست خرافة يحكيها الأجداد إلى الأبناء للتسلية، وليست قصة محبوكة عن بطولات وهمية...ا
إنها قصة حقيقية عن بطولة الأجداد، قصة تحكي إبداعهم لنا، رغم أن الكثيرين منهم لم ينهلوا العلم، ولم يشاهدوا أفلام السيرك أو الألعاب البهلوانية. قصة حكاها لنا أحد الأجداد الذين رحلوا تاركين أثراً لا يُنسى، قصة عن بطولة وإبداع بنـَّّاء ماهر قديم، هو واحد من جملة بنائين مبدعيىن تركوا بصماتهم على اهم التراث المعماري الموصلي في شمال العراق، إنه البناء المبدع عبّودي الطنبورجي، الذي رمم منارة الحدباء في العقد الثالث من القرن العشرين...

مهارة وتحدي

رويت القصة على لسان عامل البناء فتحي الشيخ مالو العبيدي، ويتحدث عن عملية الترميم قبل عشرات السنين فيقول :  

كنتُ في عمر الشباب عندما جمعنا البنّاء عبّودي الطنبورجي _ وهو واحد من مسيحيي العراق الذين دائما، وأبدا، كانوا مضرب الأمثلة في الذكاء، والنقاء، والدقة، والشجاعة، والعفـّة، والنزاهة المقترنة بالإبداع _ أنا ومصطفى العجوز، ون//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/16deb0ef-e83d-498b-822a-d8a994b5caf4.jpegوري المشعول، وصالح الرحّاوي، وستة عمال آخرين، وأخبرنا أنه كُلّف بمهمة ترميم فجوة في جسد منارة الجامع الكبير (الحدباء)، وهذه العملية تتطلب معدات خاصة وأشخاصاً أقوياء مختارين. وإننا أُخترنا للقيام بهذه المهمة الصعبة...ا

كان أول عمل يقوم به هو زيارة مكان العمل من داخل المنارة، فوجد أنّ التصليح يجب أن يتم من الخارج وليس من الداخل، ونظر إلى المنارة من الخارج، وارتقى أسطح عدد من البيوت المجاورة لها عدة مرّات، ومن أعلى المنارة درس حالة الرياح واتجاه الشمس والحالة الجوية، وذرع المسافة بين حوض المنارة والفجوة فوجدها حوالي (20) عشرين متراً...ا
وبدأنا معه في إعداد المستلزمات والمعدات المطلوبة للعملية، ومنها صندوق خشبي كبير بطول (6) اقدام وعرض (3) اقدام وارتفاع (2) قدم، أحد جوانبه مقعّر، وصنع هذا الوعاء لدى النجار من خشب قوي ومسامير ذات رأس كروي حديدي. وربط الصندوق بثمانية حبال غليظة من زواياه الأربع، طول الحبل أكثر من (25) متراً، وجعلنا في كلّ متر عقدة. واشترى البنّاء عبّودي مذراة حصاد وعدداً من الجرار وجص سريع الجفاف (جص شداد)، وحجارة خرشانة (حجارة من الجص المبني قديماً وتسمى زكّورة ...
وكان مثار استغرابنا عندما ذهب البنّاء إلى ميزان كبير في علوة الميدان ووزن نفسه، وطلب منّا جلب حجارة صمّان بقدر وزنه ووضعه في الصندوق الخشبي، ثم الصعود إلى حوض المنارة مع هذه المستلزمات وصفائح ملساء من القصدير. وقال لنا أنّ الذي يخاف لا يأتي معي. فصعدنا معه إلى أعلى المنارة ونحن نخفي خوفنا الشديد من الارتفاع الكبير ومن أن يأخذنا الهواء الشديد معه، أو تميل المنارة أكثر وقد تسقط من ثقلنا على البيوت المجاورة...ا

و//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/3a17bbd2-7911-44ee-aad7-1f4d6b307a54.jpegضع عبّودي صفائح القصدير على حوض المنارة ليسهل انزلاق الحبال عليها دون أن تتخدّش أو تتآكل، وطلب من كلّ اثنين منا الإمساك بحبلين مثبتين في زاوية من زوايا الصندوق ودليناه عقدة بعد عقدة ببطء إلى وسط المنارة، وسرعان ما وصل أمام الفجوة المراد ترميمها، ولكنه يبعد عنها أفقياً مسافة قليلة. فطلب إعادة الصندوق بسحبه إلى حوض المنارة ... ففعلنا، وأضاف إليه حبلين آخرين من خلف الحوض لغرض سحبه نحو جسد المنارة من الجهة الأخرى. وأعدنا العملية لعدة مرّات حتى تدربنا عليها على نحو جيد جداً. وعلمنا أنّ محافظ الموصل قد كلّف البناء عبّودي بترميم هذه الفجوة في مقابل أي مبلغ يطلبه...ا
وفي اليوم الموعود حضر المحافظ مع موظفين من الآثار من بغداد ومن الأوقاف، وامتلأت أسطح المنازل وحديقة الجامع بالمشاهدين من النساء والرجال والأطفال. وصعدنا أعلى المنارة مع معدات البناء وركب عبّودي في الصندوق الخشبي مع مواد البناء غير خائف أو متردد. وتم إدلاؤه نحو مكان الفجوة بمهارة فائقة، وسحب عاملان آخران الحبلين الإضافيين فأصبح الصندوق مطابقاً للمكان. وأخذ البنّاء بتنظيف الفجوة بالمذراة من أعشاش الطيور والحجارة الهدمة ورشّها بالماء من الجرار، ثم بدأ البناء بمزج الجص الشداد بالماء واستعمال الحجارة الخرشانة...ا
وكنا ننظر من أعلى المنارة حابسين أنفاسنا وكلّ دقيقة تمرّ كأنها ساعة، والناس مشدوهون من المنظر الغريب المخيف، وفجأة لاحظنا أنّ البنّاء عبّودي توقف عن العمل وملامح الخوف تبدو على وجهه. فقلنا له: هل نسحبك ؟ فلم يجب وهو ينظر مشدوهاً إلى الفجوة. وإذا به يدخل المذراة داخل الفجوة بقوة وسرعة ويخرجها فإذا هي حيّة كبيرة طعنها وأسقطها إلى الأسفل في حديقة الجامع حيث قتلها المتفرجون. وكان جلب المذراة من بناة أفكار البنّاء الذكي الذي توقّع وجود مثل هذا الحيوان الذي يعيش على أكل الطيور التي تنام ليلاً في شقوق المنارة. وتصاعدت زغاريد النساء من أسفل المنارة وصياح الجمهور مستحسناً العمل...ا

واستمر العمل مدة ساعة تقريباً أعاد فيها البنّاء ترميم الفجوة وإكمال النقوش كما كانت بكفاءة عالية، وعندما أردنا سحب الصندوق رفض البنّاء ذلك قبل أن يأكل اكلته المفضلة التي كان قد وضعها في فتحة صدره، ليثبت للناس عدم خوفه وتحدّيه للأخطار والصعاب، واستمرّت النساء تزغرد والأطفال تهزج وتصفّق...ا

وانتهت عملية الترميم وسحبنا البناء الشجاع عبّودي الطنبورجي إلى الأعلى. ورفض أن يستلم أي مبلغ ثمناً لعمله، وأعطى للعمال أجوراً مضاعفة من جيبه الخاص...

من//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/cde06d9a-c5fa-4def-b080-ba6644716b22.jpegارة الحدباء

الحدباء هي مأذنة تقع  في الركن الشمالي الغربي من حرم الجامع النوري أو الجامع الكبير أو جامع النوري الكبير، الجامع التاريخي الذي يقع في الساحل الأيمن (الغربي) للموصل ويعود بناؤه  الى1180 م. وتسمى المنطقة المحيطة بالجامع محلة الجامع الكبير .

بناه نور الدين زنكي في القرن السادس الهجري أي أن عمره يناهز التسعة قرون. ويُعتبر ثاني جامع يبنى في الموصل بعد الجامع الأموي. أعيد إعماره عدة مرات كانت آخرها عام (1944 م).

يشتهر الجامع بمنارته المحدَّبة نحو الشرق، وهي الجزء الوحيد المتبقي في مكانه من البناء الأصلي. عادة ما تقرن كلمة الحدباء مع الموصل وتعد المنارة أحد أبرز الآثار التاريخية في المدينة. تتهدد المئذنة بسبب إهمالها بالانهيار، وكانت هناك عدة محاولات لإصلاحها من قبل وزارة السياحة والآثار العراقية، إلا أن هذه المحاولات لم تكن بالمستوى المطلوب. وما زالت المئذنة بحالة خطرة ومهددة بالانهيار.

 

 ويشير المختصون الى انها برغم مرور ما يقارب التسعمئة عاماً على تشييدها الا انها مازالت تحافظ على دقة هندستها ونقوشها ، كما يعد الجامع النوري الذي يضمها من أكبر واقدم المساجد الجامعة في المدينة ومعلماً بارزا من معالمها.


بعد الاحتلال المغولى للموصل لاقى هذا الجامع كغيره الكثير من الإهمال والتخريب، حيث دُمرت الموصل تدميرا شبه كاملا. سنة 1146 هـ وتولى حسين باشا الجليلي ولاية الموصل، وفي عام 1150 هـ انتشر في المدينة طاعون شديد مات فيه الكثير من اهلها وفي نفس السنة أعيد إعمار وتنظيف الجامع.

 الراجح ان سبب انحناء منارة الحدباء نحو الشرق هو الريح السائدة الغربية في الموصل، حيث تؤثر هذه الرياح على الاجر والجص المبنية منها هذه المنارة فأدت إلى ميلانها إلى جهة الشرق.عوامل أخرى هي التغيرات في درجة الحرارة والتفاوت في أسس البناء، وتفسير آخر يقول ان إبراهيم الموصلي تعمد هذا الميلان لكي يقلل من الخسائر في حال سقوطها، لانه غرب المنارة كان (وما يزال) هناك بيوتا كثيرة ولكن إذا سقطت نحو الشرق ستقع على صحن الجامع وتقلل الخسائر. المنارة مهددة بالانهيار، ويبدو أن السبب هو المياه الجوفية التي تحيط بها، والتي أدت إلى اهتراء قاعدة المنارة.وقد درجته مؤسسة الصندوق العالمي للآثار والتراث في قائمة الأكثر مائة آثر مهددة في العالم.
حكايات واساطير

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/65f98383-a21e-4479-b2b1-05c7f2606b1d.jpegتنتشر في الموصل الكثير من الخرافات حول سبب الانحناء، ومنها ان النبي الخضر مر بالمنارة فمالت خجلا منه، أو ان الإمام عليا جاء لزيارة حفيده علي الأصغر فانحنت احتراما له، ويستدلون باسم منطقة (دوسة علي) المجاورة. خرافة أخرى تقول انه لما أسري بمحمد إلى السماوات السبع، مر بالموصل فانحنت له، وهذا مستحيل حيث بنيت المئذنة بعد وفاة محمد بقرون.وقال النصارى ان المنارة انحت لمريم العذراء والتي يقال أنها مدفونة قرب أربيل، أي باتجاه ميلان المنارة.

 

للمنارة قسمين أحدهما اسطواني وآخر منشوري، القسم الاسطواني يعلو القسم المنشوري ويشمل على سبعة أقسام زخرفيه آجرية نافرة على شكل حلقات. ولها مدخلان يصل كل منهما بواسطة درج إلى الأعلى، فجعل المعماري إبراهيم الموصلي سلمين في باطن المنارة كل منهما منفصل عن الآخر، يلتقيان عند منطقة الحصن في الأعلى، فالصاعد إلى الأعلى لا يرى النازل إلى الأسفل، وعمد المعماري على جعل سلمين للمئذنة والهدف الأساسي تخفيف ثقل المئذنة الكبير على القاعدة.


في العام (1981 م) قامت شركة إيطالية بمحاولة لتثبيت المنارة، علماً بأن القصف على الموصل في فترة الحرب العراقية الإيرانية كسّرت بعض أنابيب المياه تحت الأرض وتسببت في تسرب أدت إلى اضعاف بنية المنارة. ازداد احتداب المئذنة منذ تلك الفترة بحوالي 40 سنتيمتر. وفي محاولة أخرى قامت وزارة السياحة والآثار العراقية بمحاولة ترميم المنارة بضخ كميات من الاسمنت المسلح إلى قاعدة المنارة للحفاظ عليها، إلا أن هذه العملية لم تكن أكثر من حل مؤقت، وبالرغم من كل المخاطر التى تهدد المئذنة، فقد قال العلامة بهنام أبو الصوف أن احتمالية انهيار المنارة في المستقبل المنظور ما زالت قليلة .

 

 

عالية كريم

رئيسة تحرير "معكم"

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved