مسيحيٌّ أوّلُ ...

2016-08-05
قبل حوالي سنواتٍ عشرٍ،  أظهرتْ إحصائيّةٌ أن أربعين بالمائة من البريطانيّين، على غيرِ دينٍ .
ويوم أمس، تحديداً،  بيّنتْ إحصائيّةٌ جديدةٌ أن نسبة مَن هم على غير دينٍ من البريطانيّين بلغتْ
خمسين بالمائة .
في اسكندنافيا، مثلاً، قد تبلغ النسبةُ، الستّين .
مع الزمن، تتحوّلُ أوربا إلى قارة من الوثنيّين .
وثمّتَ مسارٌ تاريخيٌّ .
الثورةُ الفرنسيّةُ في 1789 مهّدت الطريق، بإلغاء امتيازات الكنيسة وفصل الدين عن الدولة .
ونابوليون الذي اجتاح أوربا بجيش من الحفاة تحت راية الثورة مثلثة الألوان، رسّخَ هذا الفصلَ.
الثورة الروسية في 1917 كانت أعمقَ راديكاليّةً، حين اتّخذت الإلحادَ سبيلاً .
لكن المملكة المتحدة كان لها سبيلها المختلف الذي بدأ بتمرد كنيستها على روما البابوية، أواسط القرن السادس عشر، أياّمَ هنري الثامن ( 1491-1547 ) . هذا السبيل المختلف ظلّ خفيّاً، لا يكاد يُرى، بل أن الكنائس ظلّتْ قائمةً كما هي، وإن بدأ عددُ المؤمنين الذين يؤمّونَها يتناقص تدريجاً . وفي زعمي أن اليسار البريطاني، على اعتداله، أو بسببٍ من اعتداله، كان السبب الرئيس في اضمحلال التديُّنِ .
*
أنا أسكن، غير بعيدٍ عن وسط المتروبوليس، لندن، في ما يشبه الريفَ .
قبالتي مبنى لكبار السنّ .
أعياد الميلاد ورأس السنة تقترب، لكني لا أرى على المنازل تلك الزينات المتّصلة بالمناسبة ( وبخاصّة الدينيّ منها ) .
*
أنا، المرء الوحيد، الذي يضع على بابه إكليلاً، هذه الأيامَ .
يقول بدر العظيم مخاطباً سيدتَنا مريم :
تاجُ وليدِكِ الأنوارُ، لا الذهبُ ...
*
عصرَ هذا اليوم ، الثلاثاء،  الثامن من ديسمبر، كنتُ أطِلُّ على المبنى المقابلِ، مبنى كبارِ السنِّ .
راعَني أن أرى امرأةً ممدّدةً عند المدخلِ، وليس عليها سوى غطاءٍ شفيفٍ . كان شعرُها، وهو في بياض الثلج، يلتمعُ .
هبطتُ عجِلاً، أستطلعُ .
كانت الأرضية شديدةَ البرودة .
رجلٌ وامرأتان كانوا هناك .
قيل لي إن المرأة العجوز تعثّرت، وهي تدخل المبنى . الآن لا تستطيع الحراك . وهم بانتظار سيارة الإسعاف.
*
في مثل لمح البصر، تذكّرتُ قصة لدوريس لسِنغ ( الحائزة على نوبل ) تُفَصِّلُ فيها كيف تأتي عربةٌ، الفجرَ ،
إلى مبنى مهجورٍ في هامستِد، يلجأُ إليه المشرَّدون،  كي تجمع الموتى منهم .
*
كنت مع الواقفين إزاء المرأة الممدّدة .
فجأةً تحدّرت الدموع من عينيّ .
السيدة التي كانت واقفةً قربي، فتحتْ عينَيها، واسعتَين :
أنت تبكي !
قلتُ لها : المسيحيّةُ الأولى !

08.12.2015
 



سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved