عن الكُتّاب والكتابِ والحكْمةِ ...

2016-09-17
أمضَيتُ من حياتي، وقتَها الأطولَ، بين سطور الكتاب وصفحاتِه، بل تعدّى ما أصدرتُه من كتُبٍ، المائةَ، عدّاً ...
هكذا آتاني الكتابُ حكمةً ما .
ليس شرطاً أن ما أُوتِيتُهُ من حكمةٍ، سوف ينفعُني، أو ينفع الناسَ .
حكمتي هي حكمةُ الحمقى، لا حكمةُ ذوي الألباب .
ذوو الألباب، لا تعنيهم حكمتي، التي تدعو إلى الجهرِ بالقول، ومناهضة الظلم، وممالأة الإعتراض، إذ أن ذوي الألباب هؤلاء معْنيّون بالزائل والزائف من أموالٍ وأعمالٍ، عارفون بمآكلِ الكتِفِ معرفتَهم بأسمائهم .
قبل يومين، صُغْتُ، وأنا في سِنةٍ من النومِ، حكمةً، لكنْ باللغة الإنجليزية .
It is preferable not to milk a dead cow.
هذه الحكمةُ تجيء بالعربية كالآتي :
خيرٌ ألاّ يحتلبَ المرءُ بقرةً ميّتةً ...
*
أعني بالبقرة الميتة، ثقافةَ العرب الراهنة .
*
إذاً ... ها أنذا قد دبّجْتُ ديباجةً .
عجبي !
*
من مِهَنِ الاحتيالِ التي جاء بها الزمانُ الفاسدُ، مُقاولُ الصحافة والثقافةِ  .
هذا المقاولُ هو أنموذجُ الجاهلِ ومثالُه،  وهو الغبيُّ، لكنْ البارعُ في استعمال الهاتف الذكيّ، والبسمة الكاذبة، والبدلة الأنيقة . هو أيضاً العارفُ بالمقصف والملهى والنادي الليليّ ذي فتَياتِ المواعيدِ .
*
مقاولُ الصحافة والثقافة، لا يفقه أمراً من أمورِ الصحافة والثقافة،  لكنه ينجح بسببٍ من " فهْلوَتِه " في الحصولِ على صفقةٍ يُصْدِرُ بموجبِها، مجلةً، أو صحيفةً، بالعربية أو سواها، كما ينجح بسببٍ من الفهلوةِ ذاتِها في تأسيس جمعية أو منبرٍ  أو جماعةٍ .
إلاّ أن هذا المقاولَ الأوّلَ، الجاهلَ بالصحافة والثقافةِ، سوف يواجه عقَبةً أولى : كيف ينفِّذُ مقاولتَه أو مقاولاتِه ؟
آنَها  يستعين بمقاولٍ ثانويّ، مثقّفٍ بلا ضميرٍ، ولا شرفٍ، ليتولّى المشروعَ .
*
أنا الآنَ أنظرُ من النافذة :
سماءُ لندن، في هذا الضحى العالي، مصفّحةٌ بالرصاص . الهواء مبتلٌّ . والعشبُ نضيرٌ .
*
في لندن، شأنها شأن حواضر المتروبول الأخرى، يتوالَدُ مقاولو الصحافة والثقافة، كالفِطْر .
أسرعُ وسيلةٍ للثراء، أن تحظى بمقاولةِ صحافةٍ أو سلاحٍ، في هذه الأمّةِ من التجّارِ والمحاربين :
A nation of traders and warriors.
*
في لندن، وسواها، عدد من الصحف، تحمل الواحدة منها ما ينسبها إلى العرب، وهي ليست من العروبة في شيء.
والمقاولون الثانويّون في هذه الصحف، هم الأكثر جهلاً، وبُخلاً، وفساداً .
إنهم ضد أمّتِهم، في السياسة والثقافةِ .
يتعالَونَ على ذوي العِلمِ والشرفِ والمبدأ، ويلعقون نِعالَ المقاولِ الأولِ، وسادتِه من ذوي البراميل .
*
أحياناً أتساءلُ :
هذه الصحف لن يقرأها أحدٌ، لا ورقيّةً، ولا شبكيّة .
كُلفةُ هذه الصحفِ غيرِ المقروءةِ، فادحةٌ، في مُرتبَعٍ مثل العاصمة البريطانية .
إذاً، ما السببُ في إصدارِها ؟
*
أزعمُ، بعد مُقامي المديد هنا، أن السبب، يتمثّلُ في أن الصحف المشارَ إليها، تساعدُ في إيجادِ مقرّاتٍ، 
وإدامة كوادرَ، لدوائرِ معلوماتٍ عائدةٍ إلى البلدان التي هيّأت كلّ المستلزماتِ لإصدار الصحف .
أمّا المقاولُ الأول، والمقاول الثانويّ، فليسا سوى بيدقَينِ في لُعبةٍ متّفَقٍ عليها، بين المتروبول ودوائرِ المعلوماتِ تلك .
*
ألم تسمعوا بحكمة الأحمقِ الذي هو أنا :
It is preferable not to milk a dead cow ?

لندن 05.01.2016

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved