أنت مع الناس، إذاً ... أنت الناس !

2017-07-23
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/62fb7def-5c47-4c52-b5c2-1a3ae849e672.jpeg


مُقامي بالأقصُر، وتنقُّلي بين الضفتَينِ، هذه الأسابيعَ، أتاحا لي فرصةَ التأمُّلِ في ما على الفنّان أن يتّبِعه وهو يُقَلِّبُ وجوه العلاقة ، علاقتِه، هو، في ما يحيطُ به، ومَن يحيط .
في مُقامي بالأقصُر، حرصتُ على أن أُفَتِّحَ حواسّي حتى أقصاها : عيناً، وأُذُناً.
لقد بَعُدَ بي العهدُ، ونأت الديار :
 أنا منذ عقدَينِ في أوربا المعقَّمة، الكالحة، أوربا الصامتة بأهلِها المغلَقين، وكِلابِها الصامتة .
لا صديقَ، ولا رفيقَ .
حتى أبناءُ ما كان بَلَدَكَ، أمسَوا  أحياءَ- موتى، لِفَرْطِ محاولتِهم تقليدَ مَن يعيشون في كنَفِهم .
أقولُ : حرِصتُ على أن أفَتِّحَ حواسّي وأنا في الأقصُر .
أجلسُ في مقاهي الجنيهات الثلاثة، أتملّى الوجوهَ، سعيدةً أو شقيّةً . وأُنصِتُ إلى الحديث العابر، والنكتة اللاذعة .
ألتَذُّ بفصاحة أهل الصعيد، وبقربِ لهجتهم من لهجة البصرة الأولى، قبل أن تُجْهِزَ عليها الهجرةُ والحروب .
في أزقّة البرّ الغربيّ المنحدرة نحو النهر العظيم، ألتقي أطفالاً ونسوةً، وأُدعى إلى كوب شايٍ في هذا المنزل المتواضع أو ذاك .
ثمّتَ غرابةٌ في ملْبَسي، تثير لدى أهل البرّ الغربيّ، سؤالاً عن هويّتي، فيحاولون مخاطبتي بإنجليزيّة العابر . وأتذكّرُ الأخطل الصغير، وهو في طريقه إلى بغداد :
وتَطلّعَتْ زُمَرُ الجنادبِ من فُوَيهاتِ الثقوبِ
يتساءلون عن الفتى العربي في الزيّ الغريبِ
يتساءلون وقد رأوا قيسَ الملوَّحَ في شحوبي
والأغنياتِ على الشفاه مخضّباتٍ بالنسيبِ

*
في الأسواق، بين شارع التلفزيون، والمدينة المنوّرة، هنا في الأقصُر، أجِدُني بين أهلي، لم أصطدمْ بأمرٍ، ولم يصدمْني مَظهرٌ .
حتى توهُّمُ أنني أجنبيٌّ لم يصدِمْني .
ما إن أنطق بالعربية حتى تتعالى الضحكاتُ العذبة !
*
لأدخلْ، بعد هذه الديباجة الطويلة، إلى الفكرة التي تزدادُ إلحاحاً عليّ :
أنا آنَسُ بالناسِ .
لكني أشعرُ بالفزَعِ من " المثقفين ". وإذْ أراجعُ سيرتي أرى أن فترات إبداعي الأكثر امتداداً، هي تلك التي لم ألتقِ فيها بأولئك " المثقفين "  :
في الجزائر، بين 1964 و 1971
لم ألتقِ أحداً بإطلاقٍ، لكن تلك الفترةَ كانت لديّ فترةَ غنىً وتجارب، أسفرَتْ عن ديوان " بعيداً عن السماء الأولى".
وفي لندن، حيث أعيش، كالناسك ، في الضواحي، لا أزورُ، ولا أُزارُ؛ كتبتُ بغزارةٍ لم أعهدْها في حياتي، وأصدرتُ " أعمالي" في مجلداتٍ سبعةٍ، تبلغُ صفحاتُها ثلاثة  آلاف وخمسمائة صفحة، وهذا يعادل كل المتن الشِعري العربيّ، من الجاهلية حتى القرن الثالث الهجريّ .
والسبب ؟
لم ألتقِ " مثقفين " !
*
في هذه الأيّامِ، أثبتَ " المثقفون " أنهم الأسوأُ، خَلْقاً وخُلُقاً :
هم لسانُ الحاكمين،  الظالمين، المتلمِّظُ كلسان الأفعى .
هم لاعقو نعالِ الشيوخِ والشّيخاتِ .
هم الرقباءُ الأشدّ ضراوةً على الفكرِ الحُرّ .
هم الوُشاةُ على أهل القلم النظيف .
هم اللاشيء !
*
صحيحٌ أني لا ألتقي " مثقفين، لكني ألتقي سياسيّين !
السببُ أني أعرفُ، القاعدةَ الذهبَ، القائلة بأن السياسة هي فنُّ الكذبِ .
أعرفُ أني ألتقي كذّابين. هكذا أُحسِنُ التعاملَ مع السياسيّين. أتركهم يكذبون عليّ ويكذبون، لأحلِّلَ ما قالوه، في ما بَعْدُ .
*
أنا مع الناس ...
إذاً : أنا الناس !
أنتم الناسُ أيّها الشعراءُ  ...
لكنْ : أين الشعراء ؟
هل أمسى الشعراءُ، هم أيضاً، " مثقفينَ " ؟

الأقصُر 22.02.2017




سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved