إذا كانت قضايا المرأة في جوهرها قضايا إنسانية اجتماعية، بمعنى أنها قضايا لا تنفصل عن قضايا الرجل، فهي من ثم جزء جوهري أصيل في قضية الوجود الإجتماعي للإنسان في واقع تاريخي محدد. هذا هو الذي يحدد وضعية الرجل ووضعية المرأة معاً في نسقه الاجتماعي والثقافي والفكري. ولسنا مع ذلك ننكر الجانب البيولوجي الطبيعي المميز وفقاً للشروط المحددة للوضع الإنساني عموماً.
علينا في اشتباكنا مع الخطاب السياسي أن نكشف عن قناع ايديولوجية التزييف التي يمارسها عن قصد أو عن غير قصد، وذلك بالكشف عن حقيقة التوجهات التي تسعى إلى قمع الإنسان كلية، وإن كانت تبدأ بما تتصوره الحلقة الضعيفة في الإنسان، أي المرأة. إن قهر المرأة بعزلها عن المشاركة في صياغة الوجود الاجتماعي للإنسان المتمثل في المرأة حبيبةً وزوجةً وأماً. هكذا يخوض الرجل المعركة وحيداً وضعيفاً ومتخاذلاً في معظم الأحيان. وإذا كان علينا القيام بنفس المهمة ـ مهمة كشف قناع أيديولوجيا تزييف الوعي ـ مع الخطاب الديني كذلك، فإن علينا بالإضافة إلى ذلك تحاشي السجال الإيديولوجي معه باللجوء إلى نفس سلاحه الأثير، سلاح تأويل النصوص والمواقف الدينية. إن قضية المرأة لا تناقش إطلاقاً إلا بوصفها قضية اجتماعية. وإدخالها في دائرة القضايا الدينية هو في الحقيقة تزييف لها، وقتل لكل إمكانيات الحوار الحر حولها.
إن مشكلة الحديث في قضايا المرأة ـ حريتها أو تعليمها أو مساواتها بالرجل، فضلاً عن زيّها ومكانتها الإنسانية في المجتمع ـ من منظور النصوص الدينية والفكر الديني، أنه حديث يظل مرتهناً بآفاق تلك النصوص من جهة، وينحصر في آليات السجال مع أطروحات الخطاب الديني العميقة الجذور في تربة الثقافة من جهة أخرى. وكلا الأمرين يؤدي إلى حصر المناقشة في إطار ضيق، هو إطار الحلال والحرام. وهو إطار لا يسمح بالتداول الحر للأفكار. فضلاً عن أنه إطار يحصرنا في دائرة تكرار الأسئلة القديمة المعروفة، الأمر الذي يفضي بنا إلى الاكتفاء بالوقوف عند حدود بعض الإجابات الجاهزة، المعروفة سلفاً في هذا التيار أو ذاك.
وحين تناقش المشكلات الاجتماعية عامة ـ ومشكلة المرأة خاصة ـ من منظور الدين والأخلاق تتبدد جوانب المشكلة، وتتوه في ضباب التأويلات الإيديولوجية النفعية للنصوص الدينية. الأهم من ذلك أن المناقشة من منظور الدين والأخلاق تعد إخفاءً متعمداً للبعد الإجتماعي والاقتصادي من جهة، وتجاهلاً قصدياً لعلاقة المرأة بالرجل في سياقها الحقيقي وإطارها الفعلي. ولن تؤدي التأويلات النفعية الإيديولوجية للنصوص الدينية إطلاقاً إلى تغيير وضع المرأة ـ والوضع الإنساني عموماً ـ سلباً أو إيجاباً.
وعليا أن نكون على وعي دائم بأن تحرر المرأة المتمثل في ممارستها لحقوقها الطبيعية والإنسانية لا يفارق تحرر الرجل المتمثل في قدرته على ممارسة حقه الطبيعي على المستويات والأصعدة المختلفة كافة. وعلينا أن نكون على ذكر دائم بأن هذا التحرر الإنساني مرتهن بسياق تحرر اجتماعي وفكري عام في مرحلة تاريخية محددة، وذلك حين تكون حركة المجتمع حركة صاعدة في اتجاه التقدم. في هذه الحركة تنفتح كل عناصر الوجود الاجتماعي بهواء الحرية النقي، وتمتلئ كلتا الرئتين ـ المرأة والرجل ـ بمناخ الحرية المشبع بقيم الحق والعدل. ومعنى ذلك أن التحرر حالة اجتماعية عامة مرتهنة بتحقيق شروط لا تتحقق إلا بكل أشكال النضال، التي يعد النضال الثقافي الفكري بعداً من أبعادها. لكنه يظل بعداً واحداً لا يؤتي ثماره إلا بالتوافق المتزامن مع الأبعاد الأخرى النضالية كافة.
والسؤال الذي لم يتطرق إليه أحد بشكل مباشر : هو لماذا حين يصبح الركود والتخلف من سمات الواقع الاجتماعي والفكري، يصبح "وضع المرأة" قضية ملحّة ؟! ولماذا حين ينسدل ستار الركود على عقل الأمة وثقافتها يتمظره هذا الإختلال أول ما يتمظهر على المرأة روحاً وعقلاً وجسداً ؟! ولماذا يتم دائماً تبرير ذلك كله بالقراءة الحرفية للنصوص الدينية ؟! ومن الغريب أن يرد الخطاب الديني المعتدل تخلف وضع المرأة إلى الركود الاجتماعي بصفة عامة. لكنه يبرر هذا الاستثناء، والشذوذ بمراعاة الإسلام للفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة. يقول الغزالي مثلاً : "إن الإسلام ساوى بين الرجل والمرأة في جملة الحقوق والواجبات، وإذا كانت هناك فروق فاحتراماً لأصل الفطرة الإنسانية وما يبنى عليها من تفاوت الوظائف، وإلا فالأساس قوله تعالى : "فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض". وقوله : "مَن عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينُه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون"". ويقول كذلك "نعم توجد استثناءات لم تنشأ لإهانة المرأة، وإنما وضعت لتنسجم مع طبيعتها أو وظيفتها الاجتماعية، وإلا فالأساس قوله تعالى : "ومَن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا"".
لا يتنبه الخطاب الديني المعتدل إلى أن النصوص التي تعد هي الأساس في قضايا المرأة نصوص تشير كلها إلى المساواة في أمر الثواب الديني الأخروي، وأن النصوص القليلة الشاذة التي تمثل الاستثناء هي النصوص التي تشير إلى عدم التساوي في شؤون الحياة الدنيا. وبدلاً من أن يحاول فهم النصوص الاستثناء بوصفها نصوصاً ذات دلالة تاريخية اجتماعية مباشرة، وأنها يجب أن يعاد تأويلها من ثم على ضوء نصوص التساوي الأساسية. بدلاً من ذلك يلجأ الخطاب الديني المعتدل إلى التبرير ـ بدلاً من التفسير والتأويل ـ الذي يرده إلى مسألة "الاختلاف البيولوجي" وهكذا ينتهي الاعتدال ـ المتمسك بأهداب التقدم ـ إلى الالتقاء مع خطاب التراجع ـ لأن الأساس المعرفي لهما واحد في الحقيقة.
والحقيقة أن اللجوء للنصوص الدينية الاستثنائية، بل وقراءتها قراءة حرفية يمثل في ذاته علامة دالة في سياق تساؤلنا الأساسي في هذه الفقرة : لماذا تمثل قضية المرأة الحلقة الضعيفة التي يبدأ منها الانكسار والتراجع الاجتماعي والفكري ؟ في سياق التقدم الاجتماعي تسيطر على المجتمع روح الانسجام والتلاؤم، ويتحرك البشر من خلال علاقات موحدة النسيج إلى حد بعيد. نشير هنا بصفة خاصة إلى علاقة الجماعات المختلفة دينية أو عرقية أو ثقافية ولا نستثني من ذلك العلاقة بين الرجل والمرأة، لكن هذا النسيج الموحد المتجانس يصاب بالتشقق مع تحول حركة المجتمع من النهوض والتقدم إلى الركود والتخلف.
وليس هذا الترابط الذي نقيمه بين قضية المرأة وقضايا التفتت الاجتماعي بصفة عامة ترابطاً تصورياً ذهنياً. فالخطاب الديني الذي يلح على قضية المرأة هو ذاته الذي يلح على قضية وضع الأقليات الدينية في النظام الإسلامي الذي يسعى الخطاب الديني لإقامته. غاية الأمر أن الخطاب المعتدل يحاول أن يتظاهر بالتقدمية فيتمسك بدلالة النصوص الأساسية، ويبرر تبريراً إيديولوجياً النصوص الاستثنائية. لكن هذا التبرير ذاته يفسح المجال لخطاب التراجع والتطرف ليقدم قراءته الحرفية التي تكرس الانكسار، وتساهم في تمزيق النسيج الاجتماعي للأمة.