تتوسط مدينة حلب القديمة في الجزء الشمالي من سوريا وتعتبر إحدى التحف المعمارية بين القلاع الإسلامية القروسطية، ويحصر شكلها البيضوي، ودفاعاتها الضخمة مساحة تصل إلى حوالي سبعة هكتارات. وقد سبق واستخدم التل الطبيعي الذي بنيت عليه القلعة لفترة طويلة كحصن أو معقل، وهو يحوي دلائل على وجود معبد حثي يعود إلى الألف الأول ق.م، وخلال الحكم الحمداني لحلب في فترة سيف الدولة في القرن الرابع/ العاشر، تم الشروع في بناء قلعة مبكرة، وقد ظهرت أهمية القلعة الاستراتيجية مع بدء الفترة الصليبية.
لقد تعاقبت على حلب وقلعتها أحداث كثيرة ومرت بها أمم وشعوب مختلفة بسبب موقعها الهام كنقطة تلاقي القوافل المتنقلة من بلاد ما بين النهرين والبحر المتوسط وفي القرن السادس عشر قبل الميلاد ضمها الحثيون إلى إمبراطوريتهم، ثم احتلها تحوتمس الثالث في العام 1457 قبل الميلاد وضمت إلى آشور عام 738 قبل الميلاد.
وقبل أن تصبح قلعة حلب قلعة محصنة كانت في عهد الاسكندر المقدوني عبارة عن معسكر لجنود أحد قادته أما في العصر الروماني والبيزنطي فقد كان للموقع أهمية كبيرة وأضيف إليها العديد من المنشآت.
دخلها العرب المسلمون سنة (636) ميلادي وصارت مركزاً للدولة الحمدانية في نهاية القرن العاشر الميلادي فأولوا للقلعة اهتماماً كبيراً حيث بنوا السور والتحصينات فيها .
أجرى السلاجقة بعض الإصلاحات عليها، وفي عهد الزينكيين في القرن الثاني عشر الميلادي وعلى يد نور الدين زنكي جرى ترميم السور المتهدم.
وفي عام 1183 ميلادي خضعت القلعة لصلاح الدين الأيوبي وعين ابنه الظاهر غازي والياً عليها حيث بلغت في عهده أوج ازدهارها واكتملت جميع منشآتها وتحصيناتها، بعدها تعرضت القلعة للأضرار التي ألحقها بها هولاكو وجيشه المغولي في العام 1260 ميلادي.
يعتبر التاريخ الحقيقي لتشييد قلعة حلب في عهد أحد قواد الإسكندر المقدوني، إذ اختار ذلك التل الشامخ ليكون معسكراً لجنوده ,ولما احتل الرومان هذه البلاد أضافوا الى القلعة منشآت لاتزال آثارها بادية للعيان ,وكذلك ترك البيزنطيين من بعدهم بصماتهم فيها , في حين كان الفرس يعملون فيها الخراب والدمار حين تعصف بها جيوشهم متغلبة على الجيوش البيزنطية , ثم يعود البيزنطيون إليها ليرمموا ماهدمه الفرس ويضيفوا إليها تحصينات وتعزيزات أخرى، وفي عام 636م حاصرتها الجيوش العربية , وأخذ الحصار يطول ,وصمدت بفضل تحصيناتها وعتادها الغزير ومؤونتها الوافرة , حتى تمكن الفاتحون من الاستيلاء عليها عن طريق الحيلة والدهاء، وذلك باستيلائهم على أحد أبوابها في بادئ الأمر، وقد وقع قائدها البيزنطي أسيراً بيد الفاتحين وكان أول من اهتم بالقلعة في العصر الإسلامي الأمير سيف الدولة الحمداني، الذي أمر بعمارتها وتحصينها، وبنى سوراً لمدينة حلب، لأنه كان في صراع عنيف مع البيزنطيين، فأصبحت القلعة مقراً لإقامته وصارت مقراً دائماً للحكام في المدينة من بعده، واستمرت العناية بالقلعة في العهود اللاحقة، فقد بنى نور الدين الزنكي »وهو ينتمي أصلاً الى العهد السلجوقي« أبنية كثيرة فيها وذكر سوفاجيه تفصيلات الأعمال التي نفّذت في عهد نور الدين، إذ رمم كامل القلعة، وأعاد بناء سورها، وبنى فيها مسجداً، ولكن الإزدهار الكبير الذي شهدته القلعة كان في عصر الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي الذي ترك لنا آثاراً عسكرية معمارية مهمة .
يقول سوفاجيه :
إن القلعة بشكلها الحالي ترجع الى عهد الملك غازي , أي : إلى مابعد سنة 605ه¯/1209م . وقد أشاد المؤرخون بأعمال الظاهر غازي في القلعة، ورأوا أن المجموعة المعمارية والتحصينات التي أقامها تشكل إعجازاً في التحصين في نسق العمارة العسكرية في القرون الوسطى، فقد جدد حصونها، وبنى منحدراتها التي تبدأ من السور وتنتهي في قعر الخندق، بناءً متقناً كالجدران لكي يتعذر التسلق عليها، وفي العهد المملوكي جدد عمارتها الأشرف خليل بن قلاوون، ثم جددّ بعض أجزائها السلطان الملك الناصر برقوق .. وكانت آخر الترميمات قد حدثت أيام السلطان قانصوه الغوري آخر سلاطين المماليك , والجدير بالذكر أن الترميمات المملوكية أبقت على شيء من مظاهر القلعة الجميلة .
فرممت القلعة في نهاية العهد المملوكي وبداية العهد العثماني قبل أن تدخل في العزلة والإهمال حتى منتصف القرن العشرين.
*يحيط بالقلعة إطار شبه دائري وعدد من الأبراج التي تعود لحضارات مختلفة، وفي داخل القلعة الشامخة نجد أمامنا مدينة متكاملة من مباني ومساجد وقاعات ومخازن وساحات ومسرح وحوانيت والكثير من الآثار، وقد عني بالقلعة في عهد السلطان الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين، فأقيمت البوابة الرئيسية وبعض المنشآت داخل القلعة.
يتكون مدخل القلعة الأساسي من بناء ضخم مؤلف من أبواب ودهاليز وقاعات للدفاع والذخيرة، ومن ضمن الأبنية في أعلى هذا البناء قاعة كبيرة هي قاعة العرش التي زينت واجهتها بزخارف حجرية رائعة، وهناك الكثير من المباني والغرف والقاعات والممرات وآثار كثيرة في داخل القلعة. وتوجد في الأبراج نوافذ كثيرة مستطيلة منها الكبيرة والصغيرة وتطل هذه النوافذ على أجمل منظر في حلب القديمة الشهيرة بأسواقها المسقوفة وحاراتها وكنائسها ومساجدها وبواباتها وبيوتها الأثرية.
تعدّ قلعة حلب من أجمل وأبدع القلاع وأكبرها ولها تاريخ حافل بالأحداث فقد كانت منطلق وقاعدة للكثير من الحكام والملوك والقادة وشهدت أهم أحداث الشرق من عصر الآراميين مرورا بالعديد من الحضارات وحتى العصر الإسلامي.
ٍ
تقع قلعة حلب في وسط المدينة القديمة فوق تل على شكل جذع مخروط قاعدته السفلية أبعادها (550م*350م) وقاعدته العلوية التي تقبع عليها القلعة تبلغ (375م *273م) ترتفع القلعة حوالي 50 متراً عن مستوى المدينة وهي محصنة بسور دائري وتحوي ستة أبراج تشرف على منحدر وعر بني فيه برجان يتصلان بالقلعة بواسطة السراديب وفي أسفله خندق يحيط بالتل من كل الجهات يبلغ عرضه حوالي 30م وعمقه حوالي 22م وكان سفح التل فيما مضى مكسواً ومرصوفاً بالحجارة الضخمة لكن لم يبقَ منه سوى القسم الملاصق للبوابة الرئيسية، يميز القلعة مدخلها الرئيسي وهو عبارة عن جسر عريض مائل ذو درجات يتخطى الخندق ومحمول على سلسة من القناطر الحجرية عددها ثمانية في طرفه الخارجي برج صغير أما في الطرف الآخر من الجسر والملاصق للقلعة فيوجد برج كبير هو عبارة عن البوابة الرئيسية والتي تؤدي إلى داخل القلعة، وللقلعة سبعة أبواب مصفحة ومغطاة بالحديد كي تقاوم نيران وضربات المهاجمين.
يوجد داخل القلعة جامعان أقدمهما هو جامع إبراهيم الخليل والذي شيده نور الدين زنكي عام 1162 ميلادي فوق خرائب كنيسة بيزنطية أما الجامع الكبير فقد بناه الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي عام (1210) ميلادي ويحوي مئذنة مربعه ارتفاعها (20) متر في القسم الشمالي من القلعة وإلى الشرق من المسجد الكبير تقع ثكنة إبراهيم باشا التي شيدت من الحجارة المنتزعة من سفح التل.
في وسط القلعة يقع القصر الملكي الذي يعود تاريخ بنائه إلى القرن الثالث عشر الميلادي بالإضافة إلى حمام كبير مؤلف من عشر غرف تمر فيها أنابيب المياه الحارة والباردة وهي مصنوعة من الفخار ويوجد أيضاً صهاريج لحفظ الماء وعدة آبار يبلغ عمق بعضها (60) متراً وقد استخدمت هذه الآبار كسراديب خفيه. كما ويوجد داخل القلعة مجموعة من القاعات ذات استخدامات متعددة بعضها ذو طبيعة دفاعية كالتي تطل على المدخل الرئيسي وقاعة للعرش تعود إلى عهد المماليك (القرن الخامس عشر والسادس عشر) والقاعة الكبرى الموجودة تحت مستوى القلعة يتم الوصول إليها بواسطة درج وقد سميت (حبس الدم) كما توجد قاعات أخرى كانت تستخدم كمستودعات.
ومن المؤكد أن مكان قلعة حلب الأساسي هو مرتفع طبيعي أضيف إليه ارتفاع اصطناعي , بحيث أخذ شكل التل العالي المرتفع في وسط المدينة، وقد كشفت التنقيبات الأثرية عن وجود البقايا التي تعود الى العصر الحثي من خلال معبد الإله تيشوب، ومن ثم معبد الإله حدد الآرامي، وغيره من المعابد التي بنيت في عهود لاحقة، كلها تؤكد وجود القلعة منذ الألف الثاني قبل الميلاد , أو على الأقل وجود المركز »الأكروبول« ,ولكن أقدم المنشآت الباقية إلى الآن تعود الى العصرين الأيوبي والمملوكي، وذلك من خلال الأبراج والأبواب التي شيدت في العصر الأيوبي والتي تم تجديدها في العصر المملوكي .
* تعكس عمارة القلعة التطور الذي وصلت إليه فنون العمارة العسكرية من خلال طريقة عمارتها، وبأشكال أبراجها المربعة والمستطيلة والسداسية وبالمدخل المتعرج والأعمدة العريضة في السور الذي يجعل الجدار متماسكاً بالإضافة الى المسامير الحجرية في السور الضخم، والكوات المتعددة لرشق السهام والأبواب الحديدية المصفحة والمعترضات الهندسية التي تؤلف عنصراً زخرفياً ذا طابع جمالي في المنشآت المدنية كالقصر الملكي، وقاعة العرش، وأعالي الأبواب .
إضافة الى استخدام الممر الخارجي المكشوف، بحيث يسمح للمدافعين ضرب المهاجمين الذين يتمكنون من كسر خط الدفاع الأول . ولا يؤدي الجسر مباشرة إلى المدخل الرئيس، وإنما ينحرف بزاوية قائمة ليؤدي الى المدخل، وضلعا الزاوية عبارة عن جدارين مجهزين بالسقاطات، ومرامي السهام التي تسمح بالقضاء على العدو المهاجم، كما تمنعهم من استخدام الأداة القديمة في تحطيم الأبواب »الكبش« ,وهذا النوع من المداخل يسمى المداخل المنكسرة »الباشورة« ,وهي المداخل التي يرجع فضل تصميمها الى المعماريين العرب .
* في عام 1183م ضم السلطان صلاح الدين الأيوبي قلعة حلب الى الدولة العربية الموحدة، وجعلها قاعدة لضرب الفرنج وولّى ابنه» الظاهر غازي« حاكماً عليها فوسع مملكته، ووطّد حكمه، وانصرف كلياً الى تحصين القلاع وبنائها في جميع المنطقة الشمالية، وقد تقدم فن التحصين العسكري في زمن الأيوبيين، فأنشأ للقلعة مدخلاً جديداً، وحفر خندقاً عميقاً يملأ بالماء بوساطة قنوات تصب فيه وأقام عليه جسراً تحمله ثمانية أقواس متفاوتة في الارتفاع، وينتهي الجسر بباب حديد كبير وقد رصف سطح القلعة من أسفل السور حتى أسفل الخندق بقطع من الأحجار الملس يتعذر على المهاجم تسلق السطح، ويصون تربته من االتآكل بفعل الأمطار والعوامل الطبيعية، وقد أنشأ أبواباً سرية، وحفر الصهاريج لحفظ المياه، وأضاف الى القصر أبنية جديدة وأنشأ فيها حماماً وحديقة وشيد حجرات للإدارة، وأقام مسجداً جامعاً في عام 1210م، وله مئذنة شاهقة على شكل مربع، يمكن الاستفادة منها كمركز للمراقبة .
* وللقلعة عدد من العناصر الرئيسة أهمها :
¯ الأبراج : في القلعة عدد من الأبراج وأهمها البرج الأول، وهو مستطيل الشكل وقد جدد بناؤه في آواخر عهد المماليك بزمن »قانصوه الغوري« ,وتشهد على ذلك الكتابات المنقوشة عليه ,وتقوم عليه نتواءات لإلقاء القذائف والحمم الملتهبة على المهاجمين، ويليه بعد مسافة قصيرة البرج الثاني وهناك برج السفح الجنوبي الواقع خارج السور والمرتفع على نصف منحدر سفح القلعة في مسافة متوسطة بين الخندق والسور ويتجه بابه نحو الشمال، وهناك برج السور الشمالي والمتصل بالثكنة التي بناها إبراهيم باشا بواسطة درج ,إضافة إلى برج السفح الشمالي، الواقع خارج السور في منتصف السفح ويتألف من أروقة وإلى الجنوب منه ممر يقودنا الى البرج البارز الكبير في سور القلعة الشمالي، الذي يعود تاريخ بنائه الى القرن الخامس عشر الميلادي
¯ الأبواب :
للقلعة عدد من الأبواب ,أهمها باب الحيات , وهو باب البرج الرئيس ويتميز بشكله الغليظ لكونه مصفحاً بالمسامير الحديدية الضخمة، وقد زين مصراعاه بشرائط أفقية، وبحدوات الخيل وتعلوه كتابة تشير الى تاريخ ترميمه ويليه باب ثامدي وقد زين أعلاه بنقش صورة أسدين متقابلين بينهما شجرة .
وهناك الباب الثالث الذي يقودنا الى ممرات القلعة السرية وقنواتها تحت الأرض، ثم الباب الرابع الواقع أمام ضريح »الخضر« ويعلوه نحت بارز على شكل أسدين أحداهما يضحك والآخر يبكي وهو من إنجازات القرن الثالث عشر الميلادي، وباب الجبل الواقع شرق باب القلعة والذي انتهت عمارته عام 1214م أما الباب الشمالي فيقع في الطرف الشمالي لسور القلعة وباب السرالذي يؤدي إلى باب الأربعين القريب من حمام السلطان على شفير خندق القلعة من الجهة المقابلة
¯ القاعات :
في القلعة خمس قاعات رئيسة :
* قاعة الدفاع الكبرى ,والمؤلفة من حجرات متجاورة تطل مباشرة على مدخل القلعة الرئيس ,وقد زودت بكوات وثغرات بارزة لترمي العدو بحمم القذائف الملتهبة والسوائل النارية والسهام . * قاعة الدفاع الأولى وحجرات الدفاع والمستودعات * إضافة الى القاعة الكبرى الواقعة تحت مستوى أرض القلعة، يقع في زاويتها الشمالية الغربية »كوة« تؤدي الى مستودع كبير كانت تحفظ فيه الحبوب والمؤن ,وعلف الرواحل , * أما أهم القاعات وأكبرها فهي قاعة العرش وقد بناها قايتباي وكان سقفها مؤلفاً من تسع قباب ترتكز على أربع دعائم ذات زخارف من عهد مملوكي، ويقع في جدارها الجنوبي نافذة كبيرة تطل على المدينة، وهناك ثماني نوافذ صغيرة أخرى موزعة في أرجائها، كما يوجد القصر الملكي، وهو قصر جميل بابه كبير وفخم تعلوه مقرنصات شيدت بالحجارة السوداء والصفر على شكل مداميك متساوية، وأرضه مبلطة بالرخام والمرمر والحجر المصقول، يتوسطه حوض ماء، وأنشئ في جداره سبيل ماء إضافة إلى وجود حمام مؤلف من تسع حجرات وحجرة عاشرة لخلع الثياب .