قراءة فـي «دنيا جات» للروائية لطيفة حليم

2017-03-23
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/554a9270-786f-4cd7-b400-18cc4c176343.jpeg

في رواية دنيا جت، تشير الكاتبة إلى وعي المرأة المغربية وجهودها في النهضة والتحرر، في مواضع متعددة من "دنيا جات"، ومن ذلك محاولتها التأريخ للحركة النسائية التحررية في المغرب: "يجب أن نؤرخ لبداية الحركة النسائية بالمغرب مع "ف.ب." عندما حصلت على الباكلوريا وغادرت البيضاء إلى باريس. وننـتبه إلى أن أختها أكبر منها اسمها مها رحلت قبلها، غادرت البيضاء إلى باريس 1958." (ص198)
خرافة الأوطان
 
غالباً ما ترتبط الحديث عن الأوطان بالحديث عن السياسة والسياسيين أصحاب النفوذ فيها، وقد خصصت الكاتبة لهذه القضية مساحات متعددة في أمكان متفرقة، وتقوِّل شخوص الرواية ما تريد هي أن تقوله، فقد نسبتْ إلى "منى" معرفتها "منذ الصغر أن الوطن لعبة صنعها خيال الطغاة وحدوده وامتلكوا بقعه" (ص17)، وتقول في وصف جهمرة المواطنين أمام قصر الملك في أحد تداعيات الطفل "أمين": "يخرج من القصر في عربة ذهبية ويلوح بيديه للرعية الوفية والشعب العزيز ليصل إلى ساحة الهديم . يمسك الطفل بجوانب العربة التي ترتفع قليلاً على الرصيف، يحلم فترتفع العربة أكثر ويلوِّح بيديه . يسمع زغاريد النساء يصرخن "الموت من أجل الوطن" . الأطفال يكرهون الموت . الموت نزعة انتحارية شبيهة بالدم وسط صينية فوق رأس امرأة ترقص مجنونة حافية القدمين . يتسرب في وعي الأطفال الدم، يقبلون فكرة الموت والتضحية من أجل الدفاع عن ممتلكات الآخرين ويؤمنون بالخرافات . يمتلكون رقعاً كبيرة . ضمير المتكلم منى، أنا لا وطن لي. الشاعرة العراقية أمل هي الأخرى لا وطن لها لأنها تقيم في برلين. تقول :
- الأرض مرعى للطغاة." (ص113)
وتقرؤ "منى" التي هي صدى كبير لروح الكاتبة، مسودة مكتوب فيها: "... يتكلمون عن الخصوصيات بعد تأسيس الأوطان . ما كان يطوف ببالهم شيء عن الخصوصيات الوطنية التي يتحدث عنها فلاسفة ومجانين السياسة، يقول دوكول والفرنسيون عامة : إن فرنسا خالدة قديمة كانت مع كون الكون . يتكلمون كما لو لم يؤسسها أحد، وكما لو أن الفرنسية صفة ملتصقة بأرض ثابتة لا تتغير حدودها منذ أن كانت لها حدود، الحدود وهمية كاذبة". (ص183)
ويبدو واضحاً أن مغزى الحديث عن الأوطان هنا هو الإشارة إلى أفاعيل السياسيين ممن يتربعون على سدة الحكم فيها، الذين "يملؤون وقتنا ويشغلوننا بإصلاح الدستور وإعادة اللوائح وتعديل المدونة" (ص216)، أما "منى" كاتبة هذه الرواية فهي "تكره السياسة منذ التحقت بالكلية ظهر المهراز" (ص224)، كما تكره الزعماء لأن "الزعيم يرى أنه وُلد زعيماً مثلما يولد الملوك والرؤساء" (ص149)، ولاسيما أولئك الطغاة الكاذبون منهم "يجب أن نعلن عن تزوير التاريخ وأن نصرح بكراهيتنا للطغاة والكاذبين من الزعماء" (ص151).
وعندما يتعلق الأمر بالمغرب فإنها لا تتردد في ذكر الأناشيد الوطنية التي تنص على الفداء للملك دون الوطن مع أنها أناشيد وطنية (!) :
"لقد حفظنا الأناشيد الوطنية ( نحن جند للفدا... نحمي هذا الملك.. )، تقول لها:
- بنتي مَن يحميها؟"
أليست الأوطان خرافة علينا عدم تصديقها ؟!.
تقاليد مغربية
 
تدور كثير من أحداث وحوارات هذه الرواية في المطابخ المنزلية المغربية، ولذلك نرى الكاتبة مهتمة جداً بتوصيف المطبخ مكاناً وأدوات، والأكلات المغربية التي تُطهَى فيه، وطريقة طهوها، ويقع كثير من ذلك في إطار تقاليد الطعام لدى أهل المغرب، ويمكن أن يُقال الشيء ذاته بشأن الملابس .
وفضلاً عن ذلك نجدها تتعرض لكثير من التقاليد المغربية بشكل دقيق ومفصَّل، وكأنها أرادت لهذه الرواية أن تكون مصدراً من مصادر التوثيق التراثي الشعبي .
ومن جملة ذلك التقاليد الخاصة بالبنت وقت بلوغها وتحضيرها للزواج (ص12)، ومراسم الزواج ومنع البنات مشاهدة العروس (ص31)، وموقف النساء الحضريات من البدويات (ص72)، وما يحدث عند التخاصم والتصالح بين النساء (74)، وعدم تستر النساء المغربيات من الأسرى الأوربيين (76)، واستخدام الحمامات العامة (ص77)، وطواف النساء بالسروايل وبعض إجراءات الاحتفال (ص80)، والموقف من نهدي الفتاة إذا برزا (ص125)، والموقف من أصحاب الكرامات ( 131و160 و186)، وخروج البنت من بيتها بمحرم (ص139)، وقص شعر الفتاة (ص140)، وموقف أهل فاس من المرأة (ص187)، والتقاليد الخاصة بالجنازة وطعامها (ص215).
حنين إلى الأندلس
 
تبدو الكاتبة متعلقة شديد التعلق بالأندلس من خلال تعدد الإشارات إليها في ثنايا "دنيا جات"، وإسناد بعض أحداث الرواية إليها أو إلى بعض المدن الأندلسية، فمنى تسمع صوت حفيدة جدة جدة ماريا التي ولدتْ في قرية قريبة من غرناطة" (ص22)، وتشير إلى ما ذكرته كتب التاريخ بشأن قائد الجيش الإسلامي الأموي المتقدم لفتح الأندلس طارق بن زياد الذي أحرق مراكب جيشه بعد العبور إلى الجزيرة الخضراء في الجانب الآخر من البحر حيث الأندلس، في تداعٍ أوردته في مخيلة الطفل "أمين" (ص113)، وتزعم أن جد جد بيكاسو أمازيغي قدم معه في ذلك الفتح . (ص181)
ويشتد بها الحنين إلى الأندلس فتصف مدينة تطوان المغربية وتقرِّر أنها مدينة أندلسية على لسان جدة إحسان التي ورثت آلة العود عن جدتها من غرناطة (ص163) :
- تطوان مدينة أندلسية حقيقية تختلف عن فاس وسلا رغم الشبه الحاصل . تعرفين حي البلاد؟ هذا الحي له دلالته الرمزية وشحنته العاطفية، إنه تطور للأحياء المورسكية، سكن فيه جدي.... يطيب لي أن أزور غرناطة وإن كنت عجوزاً . يحلو لي أن أقضي شهوراً برفقة ولدي بسكنه البحري بِماربيا، أسمع رقصات الفلامنكو ويخفق قلبي فرحاً ." (ص167)
وفي صورة من صور اختلاط الأمكنة والأزمنة في نسيج الرواية ترسم الكاتبة هذا المشهد الذي تتحدث فيه عن المرأة العجوز "رقوشة" التي تجلس في شرفة تطل على البحر فتمد نظرها لتشاهد أضواء الجزيرة الخضراء الأندلسية متلألئة :
"رقوشة... لا تحب سهرات الكازينو بالقاهرة، ولا سهرات الفلامنكو بغرناطة، هذه الأشياء لا ترغب فيها . يقترب الحاج التطواني من سيد العباس وقد غرق في أحلام اليقظة، يقول له :
- الله... الله لو شاهدت أسيد العباس رقصات الفلامنكو بغرناطة لطار عقلك وانصرفتَ عن خرافات دادا الياقوت .
- رقوشة تشرف على البحر، أضواء شواطئ أسبانيا تلمع نوراً وتوهجاً، والبحر هادئ تنطلق بداخله قوارب الصيد." (165-6)
إن ارتباط لطيفة حليم بالأندلس ودوران أحداث كثيرة من روايتها في مدن وشواطئ أندلسية وحول شخوص ينحدرون من جذور أندلسية لَحَقيقٌ بأنْ يقود إلى زعم أنها هي نفسها أندلسية المنحدر، وكنا أشرنا إلى أن شخصية "منى" في الرواية هي امتداد لشخصية الكاتبة نفسها، فضلاً عن ارتباط الكاتبة بالتراث، وفهمها الواعي لأحداث التاريخ، وهو مما جعل التحسُّر على ضياع ذلك الفردوس- الأندلس دافعاً شديداً لها للتعبير عنه وإيلائه الكثير من الاهتمام، ويمكن أن نشير أيضاً إلى ربط الكاتبة الواعي بين غرناطة آخر حصون العرب في الأندلس بالقدس وبغداد آخر ما سقط من بين أيدي العرب في أيدي الاحتلال، وهو ما كانت توحي إليه في الفصل الثامن من الرواية .
لقد حققت الكاتبة من خلال هذه الرواية جملة أهداف موضوعية تهم القارئ العربي في كل مكان، وتتعلق بأهم قضاياه القديمة والمعاصرة، في إطار من الوعي بأهمية المعلومة التي تصل إليه بشكل غير مباشر، وكأنها في ذلك أرادت أن تثبت أن للعمل الأدبي هدفاً تعليمياً لا يقلُّ أهمية عن مجرد المتعة وقد حققتها الكاتبة بجدارة وإنْ بدتْ الرواية مشحونة بالمواد التعليمية في أغلب الأحيان، ولكن مغربيتها تشفع بذلك، لأننا في المشرق نجهل الكثير مما يتعلق بحضارة إخواننا المغاربة، وكأنهم في قارة أخرى ولا ينتمون إلينا بحال، بدءاً باللهجة المستعصية على أفهامنا، وانتهاء بالعادات والتقاليد التي أغنتْ الكاتبة بها "دنيا جات".
إن "دنيا جات" عمل مغربي حقيق بالدرس والاهتمام، وهو أنموذج للعمل المكتوب الذي يمكن له أن يخفف من حدة الهوة بين المشارقة والمغاربة، في الفهم المتبادل، خاصةً وقد لقي من لدن الكاتبة ما يجعله سهل التناول، مفهوم الـمَنازع، غنيَّاً بالحواشي الشارحة التي آمل أن يستغني عنها القارئ المشرقي للعمل المغربي عمّا قريب، إذا عُني الكتّاب المغاربة بتقديم أعمالهم وهي أقرب إلى الواقع باتخاذ اللهجة المغربية عوناً على التعبير عن الأحداث على غرار ما فعلتْ الكاتبة المبدِعة لطيفة حليم .
وإذا كنتُ أجد حرجاً كبيراً ومانعاً نفسياً قوياً في الدعوة إلى نشر اللهجات، فإنَّ بعض الفنون المكتوبة لا تؤدي غايتها دون ذلك، ومنها فن السرد، لمطابقة الكلام لمقتضى أحوال شخوص الحكاية . فإذا أضفنا إلى ذلك استعصاء بعض اللهجات على الفهم في بعض القطار العربية، فسنجد أن الحاجة إلى ما كنّا نتحرج منه أصبحت أقوى، لاسيما ونحن نواجه عصراً بعيد الآفاق، مفتوح الجهات يسمونه "العولمة".
أما بعدُ، فإن "دنيا جات" اسم لنوع من القفاطين المغربية !.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved