وفي نهاية القرن وبإنقراض سلالة بني معن، انتقلت السلطة إلى أنسبائهم من بني شهاب. وقام أحدهم، وهو الأمير بشير الثاني (1788 - 1840) بنقل عاصمة الإمارة من دير القمر إلى بيت الدين وهي محلة كانت تقوم فيها خلوة للدروز، ما تزال قائمة على مقربة من القصر الذي أقامه فيها. وبهدف تأمين حاجات قصره الجديد من المياه عمد الأمير بشير إلى السخرة، وفرض على أهل الجبل ثمانين ألف يوم عمل لجر مياه نبع الصفا إلى بيت الدين. فكان على كل رجل أن يقدم يومي عمل مجّاني في السنة لتحقيق المشروع. وقد استغرق شق القناة سنتين، وانتهى العمل فيه في تموز 1814.
بقي قصر بيت الدين مقرًا للإمارة حتى سنة 1840، وهي السنة التي نفي فيها بشير الثاني إلى مالطا في اسطنبول حيث توفي سنة 1850. وعلى أثر إلغاء نظام الإمارة سنة 1742، تحوّل القصر إلى مقر لولاية العثمانيين، ومن بعدهم لمتصرّفي جبل لبنان، بين عامي 1860و1915، ومن ثم للسلطات الفرنسية المنتدبة على لبنان غداة الحرب العالمية الأولى وهو اليوم المقر الصيفي لرئاسة الجمهورية اللبنانية.
داخل القصر
تدخل حرم القصر من بوابة كبيرة تفضي عبر رواق معقود إلى الميدان وهو ساحة كبيرة مستطيلة يبلغ طولها 107 أمتار وعرضها 45 مترًا، كانت تستعمل في الأصل لتمارين الخيّالة ومبارزاتهم كما للاحتفالات التي كان يحضرها العامة والزوار وأفراد الحاشية. وقتها كان الأمير ينطلق بجيشه إلى الحرب أو بحاشيته إلى الصيد.
وعلى طول الميدان الشمالي يقوم جناح من طبقتين، يعرف ب"المضافة". ويتألف طابقه الأرضي من غرف معقودة كانت تستعمل كإسطبلات، فيما يتألف طابقه العلوي من قاعات وغرف كانت في الأصل معدة لاستقبال ضيوف القصر. وتطل هذه الغرف على الميدان من خلال رواق مسقوف. وكانت أصول الضيافة في تلك الأيام تقضي بأن يستقبل القصر جميع زواره لمدة ثلاثة أيام دونما حاجة إلى التعريف عن أنفسهم. ويضم اليوم مجموعات من الفخاريات التي تعود إلى عصري البرونز والحديد وأخرى من الزجاجيات الرومانية بالإضافة إلى مجموعات من الحلى الذهبية والنواويس الرصاصية الرومانية والفخاريات المزججة الإسلامية، فيما تضم قاعاته الأخرى أشياء ذات قيمة إثنوغرافية، ومنها ثياب من عصر الإمارة ومجموعة كبيرة من الأسلحة القديمة والحديثة، وقد عرض في القاعة الأولى منه مجسّم كبير يسمح لزائر القصر بتكوين فكرة شاملة عن حجمه وتقسيماته ومقاييسه.
وعبر درج موصول برواق من العقد، ينفتح أمام الزائر جناحان الأول كان مخصصًا لسكنى مشايخ آل حمادة والمولجين بحراسة القصر، والثاني كان يضم جناح الوزير ومكاتبه ويطلق عليه تقليديًا اسم الوزير بطرس كرامة حيث تنبسط أمامه باحة مستطيلة يتوسطها حوض ماء، وهنا تبرز شرفتان من الخشب المطعّم والمزخرف كان الوزير يستخدمهما لمراقبة ما يجري دون أن يراه أحد.
ولولوج دار الاستقبالات تمرّ تحت بوابة مزخرفة تعتبر من أجمل ما خلّفته العمارة الشرقية في ذلك العصر، وهذا الدار يتألف من غرفة انتظار ترتكز على عامود واحد لذلك سميّت بقاعة "العامود". أما قاعة الاستقبال المعروفة بـ "السلملك" فقد شيّدت على مستويين خصص الأعلى منهما لجلوس الأمير ولبعض زواره الكبار ويعتبر هذا الجناح من أكثر أجنحة القصر زخرفة، إذ زيّنت جدرانه وسقفه بالنقوش والفسيفساء المرمرية الملّونة، ناهيك عن الآيات الحكمية المرقومة.
وخصّص للحريم داران بحيث يلفت في الدار العليا غرفة زعم أنها كانت مخصصة للشاعر الفرنسي"لا مارتين" مع أن العديد من البحّاثة يستغربون وجود غرفته قرب "دار الحريم"! فضلا عن قاعة كبيرة تفيد الكتابات فيها أنها كانت تستعمل كقاعة "محكمة". أما الدار السفلى فتضمّ أجنحة إقامة الأمير وأسرته وفيها باحة تحيط بها إيوانات عظيمة يمضي فيها أهل القصر أوقاتهم فيتمتعون من على شرفاتها بمشاهد الأودية المحيطة.
يعتبر قصر بيت الدين اليوم، مع متاحفه وحدائقه، من أهمّ المعالم السياحية اللبنانية وقبلة للسياح الاجانب والعرب على حد سواء.