علم من اعلام القرن الماضي، ذاع اسمه وانتشر صيته في المجامع العلمية واللغوية العربية والاسلامية والغربية، مؤرخاً ثبتاً، ومحققاً لا يرقى الشك اليه، أحاط بمملكة اللغة الواسعة المترامية الأطراف لأن اللغة العربية عنده..(( لغة جسيمة عظيمة قويمة لأمة كريمة عظيمة،(1) لغة قديمة النسب جليلة الحسب ثرية الكلم وافرة القواعد، دائمة الزيادة مطردة الاشتقاق موسيقية اللفظ، شعرية الحروف، غزيرة الأدب كثيرة المادة)). (2)

فعنى باللغة العربية طالباً ينشد عرفانها، منذ أن تفتحت طفولته في "مدينة الخالص" وهو يسمع المديح والرثاء في الرسول الاكرم وآله ( صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)، فاقبل على حرثها ودراستها وقراءة الكتب المؤلفة في فنها، فكبر حبه لها، وأغرم بها، يتتبع الشارد والوارد منها، ممعنا في اسرارها ودقائقها، ذائدا عن حياضها، يصوب هذا وينقد ذاك، باحثا عن سبيل سويّ ييسر معرفتها، ويرفع مكانتها، بعد ان ترادفت عليها نوائب الزمان، ثم جامعياً يعرب لسانها، ومجمعياً يرفع قواعدها وبنيانها.(3)

اقتحم البيوت في خلواتها من خلال وسائل الاعلام، وبصوت جهوري حاد النبرة، منساب مع كل ما في اللفظة من رقة وفخامة، يقّوم ما اعوج ويصوّب ما زلّ به اللسان لتظل العربية..(( رائقة المشارب، نقية من الشوائب، سليمة من عبث المتهاونين، برئية من غلط المترجمين، ناجية من عبث المستهزئين)).(4)

وآراءه الاجتهادية التي طالما أشار اليها، تدل على علو كعبه..(( فانا حسب علمي لي آراء وجولات فكرية في النحو واللغة واجتهادات لا يصح التغاضي عنها))(5)، غير ملتفت الى من يعارضه من الأقدمين وخاصة من أرسى الدراسة النحوية لأنه ليس (( جامدا ولا مقلدا))(6)، كما يرى..قال..((ونحن اذا رأينا الكلام واهيا لا يمنعنا من رده ان قائله سيبويه أو ابن جنى، فالميدان ميدان احتجاج واستدلال وبرهنة)).(7)

***

يا وحيد العراق حدث صحابا

****
عرفوا في الغيوب طيب السهادِ

بعد ري دجلة قد رواهم
****
كوثر الخلد عند ذات العماد

لك في دارة الرشيد بقاء الــــــ
****
روح رغم الفناء في الاجسادِ

لست انساك في زيارة قومي
****

وعلى الشام رف صيتك حتى
****
عم دنيا العرباء بالاسعاد

طاب لي في لقاك حلو حديث
****
قد نسجناه من نهى ووداد

يا حبيب الفؤاد يا ( ابن جواد)
****
رفرف الخلد منك في ميعاد

لك عين خلف البلاد ترانا
****
كيف نبكيك يا عزيز البلاد

يا نجيب العراق كل ديار العــــ
****
رب تحويك، يا أعز ( جواد) (8)

***

لقد كان الدكتور مصطفى جواد(رحمه الله)، شخصية جذابة قوية فرضت وجودها على آلاخرين.. كان ممراحاً مسماحا.. خفيف الظل، حلو الحديث والعشرة، يؤنس خلطاءه وجلساءه، بنكات وفكاهات مستملحة.. يناقش بهدوء، فلا تأخذه سورة الغضب حتى في أحرج المواقف.. يعرض أفكاره وآراءه حيياً، وعيناه في أغلب الاحيان مغمضتان؛ واثقاً من نفسه؛ مالكاً زمام أمره؛ مرصعاً اياها بلازمته المعروفة.." أي نعم" .. وبجمل اعتراضية كــــــ " اعزكم الله" و " أدامكم الله"..

قال عنه كوركيس عواد..(( لم يعرف عنه، مدى حياته، الا طيبة النفس ودماثة الخلق والتواضع الجم)).

كذلك قال عنه الدكتور يوسف عز الدين..(( وجدته يمتاز بأدب جم وخلق عال سام وطالما أثر أدبه في كثير من تصرفاته وفي نقده)).(9)

***

ونحن اذ نتصفح على عجالة قبسات من آثر لن يمحى، بشوق مستثار ورغبة جامحة، وفاءً لذكراه، واخلاصاً لاخائه، واعترافاً بعلمه وفضله على الاجيال الطالعة في مضمار الثقافة الانسانية..

اهديكم احبتي، رسالة بنصها وفصها، بعث بها العلامة الكبير، جواباً على رسالة وصلته من طالب علم، وتلميذ بار ... سعى الى فذ من افذاذ الزمن.. والزمن بأمثاله ضنين. وهذه الرسالة تنطوي على قدر كبير من الاهمية التأريخية والعلمية.

***

عزيزي الاستأذ والأديب الالمعي، وحيد الدين حماك الله من كل مكروه.. تحية عطرة بشذا الشوق فاغمة بعرف التوق معربة عن الاخلاص.

بلغني كتابك منذ عدة ايام وكنت أقرا كتاب (( خريدة القصر))(10)، لعماد الدين الاصفهاني الكاتب صاحب صلاح الدين الايوبي، قراءة مستفيد وناقد مستعيد، وهو الجزء الخاص بشعراء مصر في القرن السادس للهجرة، فكان ذلك لي الشاغل الرابث والعائق اللابث عن اجابة عزيز وفّي مثلكم، ولا سيما انه خلو من الأمر الحازب اللازب والعارض الواجب، ومن حسن الحظ أن صديقنا الأستاذ المحقق الرئيس(11)، كان قد ابلغني ما وقفتموه من بعثكم بكتاب اليَّ فزودته اعتذاراً مني اليكم، وقد وصلت اليَّ اليوم جريدة كركوك بعد انقطاعها برهة بل بريهة، فوجدت فيها استحثاثاً بالزام والزاما باكتراث، وأنت تعلم " اعزك الله"، أني بعيد عن التعريف بنفسي، ومن انا حتى استحق التعريف او يجرؤ قلمي على نعت نفسي او تفويف، هذا الى انك أردت التصريح وابهمت الغاية، وطلبت التوضيح وتركت السبب في عماية، أفأنت تسر حسواً في ارتغاء أم تظهر زهداً في احتواء؟ وأيا ما كان الأمر فما أنا والسيرة الادبية؟ وانما نشأت راغباً في العربية، متخذاً لها حرفة وما كان أبي لها عارفاًَ ولا لآدابها آلفاً، بل كان خياطاً ببغداد منعوتاً بالذكاء يتكلم التركية التركمانية كما يتكلم العربية العامية، وكان ضحية من ضحايا الأمية التي هي أم الصفات في العراق قبل النهضة الجديدة والهبة العتيدة، وكان جدي مصطفى ينظم الشعر شعراً بالتركية وأنا لا أعرفها.

وتهمني الاجابة عن سبب ميلي الى التاريخ وكون اطروحتي في " السياسة العباسية في القرن السادس"، وهو أن اللغة العربية التي أعد نفسي فيلسوفهاً في قواعدها واشتقاقها لا يرغب فيها أكثر الناس، على دعوى حب العروبة والظهور المتصنع لخدمتها، فضلاً عن آدابها وافانينها وبلاغتها وقوانينها، وحسبك أني الفت معجماً للتعابير المستدركة في اللغة العربية شرعت فيه منذ السنة (1928)، وهو في اربعة مجلدات ولا يزال في مسوَّته لعدم الرغبة في اللغة، وأما ميلي الى التاريخ فلأنه خير مرب للأمم الضعيفة كالامة العراقية، ولأنه قلما عالجه باحث غير عاطفي كما أدعي لنفسي فضلاً عن التقصير في البحث والخطل في التعليل والخلط في التحليل عند من كتبوا في هذا الفن.. أضيف الى ذلك أن جماعة من المستشرقين لاحظوا أن المثقفين ثقافة اسلامية عربية وكتبوا في التاريخ والتراجم خاصة كان أكثرهم من أصل تركي، كأبي بكر الصولي(12)، وشمس الدين الذهبي(13)، وخليل ابن ايبك الصفدي(14)، وابراهيم ابن دقماق(15)، وابي الفداء اسماعيل(16)، علي اعتبار أن أصله من اذربيجان، وبيبرس المنصوري(17)، مؤلف "زبدة الفكرة في تاريخ الهجرة"، وابن تغري بردي(18) = تانكري وردي وابن اياس(19)، ومن المتأخرين شمس الدين سامي ، صاحب المعجم التاريخي، وقد جمعت معجماً تاريخياً للرجال على حسب شهرتهم في عشرة مجلدات وهو في المسودة، وهو غير مهم بالنسبة الى المعجم اللغوي المذكور.

وعملت أيضاً معجماً لخطط بغداد العتيقة في ثلاثة مجلدات وقد أصبحت وحيداً في معرفة خطط بغداد في الشرق كله، بعد ان عالجت هذا الفن " ربع قرن"، وجمعت فيه من المراجع المطبوعة والمراجع المخطوطة عشرات وعشرات، هذا سوى معجم البلدان العرؤاقية العتيقة، وطبعت من المخطوطات التاريخية المسمى " الحوادث الجامعة" و" المختصر الجامع" ، " ومختصر بغداد "للذهبي واعددت للطبع " تلخيص معجم الالقاب" لابن الفوطي وهو الجزء الرابع في (1500) الف وخسمائة صفحة، والفت كتاب " فقه اللغة" على الاصول العلمية الحديثة، و " الصبح النذير للمصباح المنير" و " وسيدات الخلفاء العباسيين" أي البلاط العباسي ورسالة أبي جعفر النقيب، ورياض الادب العربي في عشرين مجلداً(20)، وشعراء العراق في القرن السادس للهجرة في مجلد واحد، وشاركت في تاريخ الادب العربي للصفين الرابع والخامس الثانوي، وفي تاريخ العرب للصف الثاني المتوسط، وليس لنا من الحرية ما نستطيع أن نزاول معه الادب ولا من الزمان ما نقدر معه على التأليف والتصحيح، فكل ما قدمت انما هو مجرد تسلية، ولو جمعت مقالاتي في مجلات العالم العربي وجرائده لصارت عشرة مجلدات كبار، وتقبلوا وافي الاحترام وخالص السلام.

المخلص

مصطفى جواد

بغداد

23/12/1952

****

23/12/1952

مهدي فهمي التميمي

بغداد اميرة الزمان

****

الهوامش والاحالات:-

(1) د. مصطفى جواد، قل ولا تقل، مكتبة النهضة العربية، لبنان، 1988، المقدمة.

(2) د. مصطفى جواد، النحو الكوفي وأثره في تيسير قواعد اللغة العربية، مجلة المعلم الجديد، مح 13، ص213.

(3) د. محمد عبد المطلب البكاء، مصطفى جواد وجهوده اللغوية، منشورات وزارة الثقافة والاعلام، سلسلة دراسات - 322، بغداد، 1982، ص7.

(4) د. مصطفى جواد، قل ولا تقل، المقدمة.

(5) د. مصطفى جواد، دراسات في فلسفة النحو واللغة والرسم،مطبعة اسعد، بغداد، 1968م، ص56.

(6) المصدر السابق، ص106.

(7) المصدر السابق، ص59.

(8) مقطع من قصيدة، القاها الدكتور زكي المحاسني، دمشق، 1970.

(9) وحيد الدين بهاء الدين، مصطفى جواد.. فيلسوف اللغة العربية وخططى بغداد الفرد، الطبعة الاولى، المكتبة الاهلية، شارع المتنبي، بغداد، 1971، ص73.

(10) خريدة القصر وجريدة العصر، وقد حقق الجزء الاول والثاني من قسم العراق سنة 1955/ 1964 العلامة محمد بهجت الاثري، كما تولى تحقيق قسم الشام الدكتور شكري فيصل، الى جانب تحقيقه قسم العجم، أما قسم مصر فحققه الدكتور أحمد امين.

(11) يريد به، شاكر صابر الضابط، وكان يومئذ برتبة" رئيس" النقيب حالياً.

(12) هو محمد بن يحيى الصولي، ويعرف بالشطرنجي ويتصل نسبه بملوك جرجان، الف في أخبار الخلفاء واشعارهم كتاباً سماه " الاوراق في اخبار آل العباس واشعارهم" توفي 335هـ.

(13) شمس الدين الذهبي، (1274-1348)، مؤرخ ومحقق تركماني في الاصل، ولد وتوفي بدمشق ورحل الى القاهرة وطاف كثيراً وكف بصره، تصانيفه كثيرة منها" دول الاسلام" و " تاريخ الاسلام الكبير" و " سر النبلاء" و" الكاشف في تراجم رجال الحديث".

(14) هو ابو جعفر محمد بن علي بن الحسين موسى بن بابويه، كان حافظاً للاحاديث بصيراً ناقداً للاخبار، كتبه.. الخصال والمقنع والهداية... توفي 381هـ.

(15) ابراهيم بن محمد بن ايدمر بن دقماق القاهري صارم الدين" مؤرخ الديار المصرية في وقته"،كتب نحو مائتي سفر في التاريخ، من تأليفه ومنقوله، وكان معروفاً بالانصاف في توارخه، موصوفاً بحسن العشرة والميل الى الفكاهة والبعد عن الوقيعة بين الناس، كاتباً مجيداً، عارفاً بلأدب والفقه، غزير الاطلاع، من تصانيفه " نظم الجمان في طبقات الحنفية ثلاث مجلدات" و " نزهة الانام في تاريخ الاسلام" و "والانتصار لواسطة عقد الامصار في تاريخ مصر" و " والجوهر الثمين قس سيرة الخلفاء والسلاطين" وولي آخر العمر إمرة دمياط فأقام فيها قليللاً فلم تطب له، فعاد الى القاهرة فتوفى فيها.

(16) (1273/1331م)، أمير عربي مؤرخ وجغرافي، ولد بدمشق، وكان أبوه الملك الأفضل قد لجأ اليها هرباً من المغول. أبلى بلاءً حسناً في قتال الصليبين دخل (1299م) في خدمة السلطان الملك الناصر، فكافأه بتعيينه والياً لمدينة حماة في سورية، وشهرته تقوم على تاريخه العام " المختصر في تاريخ البشر" ويعد تكملة لتاريخ ابن الاثير، وله مؤلف جغرافي اسمه " تقويم البشر".

(17) أحد وزراء المماليك المصريين ومؤرخيهم، نصب رئيساً لديوان الانشاء 1294، ومنح لقب " دويدار" كبير ثم عين نائباً للسلطنة (1311)، واسس مدرسة حنفية بالقاهرة.

(18) ابو المحاسن يوسف ( 1411/1469)، مؤرخ عربي ولد بالقاهرة، واحتل الصدارة بين مؤرخي مصر بعد وفاة المقريزي والعين،وصل الينا من مصنفاته التاريخية سبعة، أشهرها " النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" و " المنهل الصافي" و " المستوفي بعد الوافي".

(19) محمد بن احمد (1448م/1524م) مؤرخ عربي ولد بالقاهرة، عاصر الأحداث الاخيرة من حكم السلاطين المماليك الشراكسة بمصر وشهد الفتح العثماني، الف ( بدائع الزهور في وقائع الدهور).

(20) جمعتها من أربعين مجلداً بخطي فضلاً عن المطبوعة.

****