ساعات تروتسكي الأخيرة

2017-01-31
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/31f6c3ac-9f82-4c0c-915f-98aa7303fba3.jpeg

في العشرين من آب ( أغسطس ) 1940، جاء رجلٌ يدْعى " جاكسون " إلى بيت تروتسكي في المكسيك . كلُّ مَن في البيت كان حذِراً من خطرِ القتَلةِ الذين قد يرسلهم ستالين، لكن " جاكسون " استطاع أن يُـقْنع الجميعَ بأنه تابعٌ مخْلصٌ . لقد جاء بمقالةٍ كتبَها،  وطلبَ من تروتسكي الذي كان يعتني بأرانبه، أن يقرأ هذه المقالةَ .
بعد الخامسة مساءً بقليل، عادَ تروتسكي إلى الأقفاصِ، يُطْعِمُ الأرانبَ . ناتاليا التي كانت في الشرفةِ، رأت  شخصاً ما، يقفُ إلى جانبه . الشخص اقتربَ، وخلع قبّعتَه، فعرفتْ أنه " جاكسون " . تقول ناتاليا إن سؤالاً التمعَ في ذهنِها : لماذا صار يُكْثِرُ الزيارةَ ؟
مَظهرُه ضاعفَ من ارتيابِها . كان وجهه أخضرَ، وحركاته عصبيّةً، وكان يشدُّ معطفَه على جسمه بتشنُّجٍ .
تروي ناتاليا أن تروتسكي كان متردِّداً في ترْكِ الأرانبِ، ولم يكن مهتمّاً بالمقالةِ إطلاقاً . لكنه تمالَكَ نفسَه، وقال : حسناً . ماذا ترى ؟ أنذهبُ لنراجعَ مقالتَكَ ؟
أغلقَ أقفاصَ الأرانب، غير متعجِّلٍ، ونزعَ قفّازَي العمل ... ومسحَ سترتَه، وسار صامتاً، مع  "جاكسون " ، ومعي، نحو البيت . رافقتُهما حتى مكتب ليف دافيدوفيتش . أُغلِقَ بابُ المكتب،  وذهبتُ إلى الغرفة المجاورة .
عندما دخلا المكتب، برَقتْ هذه الفكرةُ في ذهن تروتسكي : " بمقدور هذا الرجلِ أن يقتلني " .
قال هذا لناتاليا، بعد دقائقَ قليلةٍ، حين كان ممدّداً على الأرضيّةِ، ينزفُ دماً .
لا بُدَّ أن أفكاراً  كهذه راودتْه، أحياناً، حين يُزارُ من أفرادٍ أو جماعاتٍ، لكنه كان يستبعدُها .
لقد قرّرَ ألاّ يُفسِدَ حياته بالخوف والحَيطةِ، وهكذا قمعَ آخرَ إشارةٍ لغريزة الدفاع عن النفس .
مضى إلى طاولتِه، وجلسَ، ثم انحنى برأسه على المسوّدة المطبوعة . لم يكد يُنهي قراءة الصفحة الأولى، حتى انهالتْ ضربةٌ رهيبةٌ على رأسِه .
تضمّنتْ شهادةُ " جاكسون " ما يأتي : "كنت وضعتُ معطفي المطريّ على قطعة أثاثٍ . أخذتُ فأس 
الثلج وأغمضتُ عينَيَّ، وأهوَيتُ بالفأسِ على رأسِه، بكل قوّتي " .
لقد توقّعَ، بعد ضربته الجبّارة، أن يموتَ ضحيّتُه، بدون أن تصْدُرَ منه نأمةٌ .
كما توقّعَ أن يخرجَ، هو، من البيت، ويختفي، قبل أن يُكتشَفَ الأمرُ .
بدلاً من ذلك، أطلَقَ الضحيّةُ صرخةً مُدَوِّيةً . القاتلُ قال ( سأظل أسمعُ تلك الصرخةَ طيلةَ حياتي ) .
وثبَ تروتسكي، مهشَّمَ الجمجمةِ، ممزَّقَ الوجهِ، ورمى على القاتلِ كلَ ما بلغتْه يداه من كتبٍ ومَحابرَ وسواها، ثم رمى بنفسه على القاتل . حدثَ هذا كله في دقائقَ ثلاثٍ أو أربعٍ .ِ
الصرخةُ النفّاذةُ الرهيبةُ نبّهت الحرّاسَ وناتاليا، لكنهم أخذوا وقتاً قبل أن يتأكّدوا من مصدر الصرخةِ ويسرعوا نحو الموضع .
في تلك الدقائقِ دار صراعٌ عنيفٌ . آخرُ صراعٍ يخوضه تروتسكي . لقد خاض هذا الصراعَ كالنمِر . أمسكَ بالقاتلِ،  وعضّ يدَه،  وانتزعَ فأسَ الثلجِ من يده . لقد صُقِعَ القاتلُ، فلم يوجِّهْ ضربةً ثانيةً، ولم يستعمل مسدّساً أو خنجراً . تروتسكي الذي لم يعدْ قادراً على الوقوف منتصباً، ولم يشأْ أن يسقطَ عند قدَمَي عدوِّهِ، ترنَّحَ متراجعاً إلى الخلفِ . وعندما أسرعتْ ناتاليا ودخلت المكتب، رأتْه واقفاً في المدخلِ، بين غرفة الطعام والشرفةِ، مستنداً إلى إطار البابِ . كان الدمُ يغمرُ وجهَه، ومن خلَالِ الدمِ كانت عيناه الزرقاوان، وهما بلا نظّارتَينِ، تشِعّان أشدَّ من المعتادِ . كانت ذراعاه تتدلَّيانِ بارتخاء .
سألتُ : ما حدثَ ؟ ما حدثَ ؟
ثم ّ طوّقتُهُ بذراعَيَّ .
" ناتاشا . أُحِبُّكِ " . ردّدَ الكلماتِ على نحوٍ غيرِ متوقَّعٍ، نحوٍ خطيرٍ وقاسٍ، حتى لقد مِلْتُ عليه .
همستْ له : لا أحد، لا أحد، يُسْمَحُ له برؤيتِكَ، دون تفتيش .
ثم وضعتْ وسادةً تحت رأسه المهشَّم، وقطعةَ ثلجٍ على الجُرحِ، ومسحت الدمَ عن جبهته وخدَّيهِ ...
الممرِّضاتُ شرعْنَ يخلعْنَ ملابسَه، للعمليّةِ، وهن يقطعن بالمقصّاتِ السترة والقميصَ والصِّدارَ، وينزعن الساعةَ من رسغِهِ .
وحين بدأنَ ينزعنَ آخرَ ما يرتديه، قال لناتاليا بصوتٍ بصوتٍ مسموعٍ، لكنه بالغُ الأسى :
" لا أريدهنّ  ينزعن ملابسي . أريدكِ أن تنزعي أنتِ ملابسي " .
كانت هذه الكلمات آخرَ ما سمعتْ ناتاليا منه .
بعد أن أكملتْ نزعَ ملابسِه، انحنتْ عليه،  وضغطتْ بشفتَيها على شفتَيه .
" بادلَني القبلةَ . قبّلتُه ثانيةً . واستجابَ أيضاً . كان ذلك وداعَنا الأخير ... "
--------------
* ترجمتُ المادةَ من كتاب إسحق دويتشر " النبيّ المشرَّد : تروتسكي 1927-1940 "



سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved