حزن.. الثلاثي المرح!

شكل الفنان حميد حساني مع الفنان اديب القليجي والفنان الشاعر صادق الصائغ ثلاثيا ساحرا بالنسبة لي قبل اعوام .
فهذه النسور او الخيول الهرمة عادت الى العراق في موجة حنين، او متابعة لمعاملة تقاعد، فلم يحتضنهم في بغداد سوى فندق متواضع في البتاوين – شارع المشجر .
حميد كان قادما من اسبانيا واديب من بلغاريا وصادق من لندن وانا لاحقا من الشام .
كنت صغيرهم في العمر (63-64 عاما!) وكانوا حين يتداولون ذكرياتهم احتاج الى مصادر للتواصل مع بعضها !
لقد اكتملت شخصياتهم وتجاربهم ونجاحهم وفشلهم، ولم يعد بالامكان اخذ احد منهم لتغيير رايه.. وخصوصا من الجيل الصاعد المتمثل بي !
لكنهم رغم ذلك كانوا اكثر حيوية ومرحا من اية مجموعة شباب تصغرني في العمر، حتى انني كنت اسميهم سرا "الثلاثي المرح" اذ لا حديث امتع من حديث صادق الصائغ ولا ذكريات ونكات امتع من ذكريات اديب القليجي، ولا مشاريع مؤجلة ومحبطة وكبيرة مثل مشاريع حميد حساني الفنية و.. خسارته التجارية في اسبانيا .
***
كنت المستفيد الاكبر من تلك الصحبة الرائعة .
كانت لدينا جولاتنا اليومية في البتاوين، حيث خلطة الحياة تتجلى باروع صورها.. وحيث المنطقة صارت تعرفنا بمعاطفنا واناقتنا الاوروبية ووجوه الثلاثي المرح الموحية بعظمة سابقة !
كنا معروفين عند اصحاب المطاعم والمقاهي المجاورة لفندقنا في البتاوين بوجباتنا المميزة والصحية واصرارنا على مزيد من النظافة .
كان حميد حساني هو المرجع في معرفة اين صادق واين اديب واين عامر ومتى يعود الواحد منهم وكان دائم الاتصال بنا ليطمئن علينا، مثل ام تطمئن على اولادها، اضافة الى انه كان مسؤول قسم الطواريء في تلك المجموعة . فعندما مرض الفنان اديب القليجي اتصل بنقيب الفنانين ونقله الى المستشفى فورا .
***
كانوا شبابا اكثر مما ينبغي !
في الواقع كانوا مشغولين اكثر مني في التخطيط للمستقبل.. ولم يكن يعيق هذا "المستقبل" سوى موظف فاسد يحاول الانتقام منهم بتاخير معاملاتهم وعرقلتها دون سبب واضح سوى السادية الشائعة عند غالبية موظفي الدولة !
اديب القليجي انجز كتابه الاول عن تاريخ المسرح العراقي ويستعد للثاني، وصادق الصائغ يفكر في اقامة معرض للخط العربي الممزوج بطريقته اللونية والتكوينية والتعبيرية الباهرة.. اما حميد حساني فقد كان يتحين اية فرصة ليحدثني، بجدية وتخصص ( باعتباري كاتب سيناريو سابق ) عن سيناريوهاته التي ( ينوي ) كتابتها وانتاجها بالتعاون بين العراق واسبانيا.. والتي لم يجد من يصغي لها في العراق وربما في اسبانيا ايضا !
وكنت اتعلم واستمتع في كل لحظة بتلك الصحبة التي سعى لها حميد حساني عندما شجعنا على الاقامة في ذلك الفندق !
اصحاب الفندق كانوا في غاية التقدير واللطف معنا، وعاملوا جماعتي باعتبارهم من نوادر الرجال الذين يتمتعون باللطف والرقي القديم .
كانت نشوة "الثلاثي الرائع" تبلغ ذروتها يوم الجمعة اذ نخرج مجتمعين في الغالب الى شارع المتنبي وهناك نتوزع على معارفنا ونبحث عمن يتذكرنا ! ونعود لنستعرض في بهو الفندق ما اشتريناه من كتب ( قراناها سابقا في شبابنا ) في الغالب .
***
كان حميد حساني يتصل بي من اسبانيا الى دمشق.. وصار يتصل بي من اسبانيا الى بغداد واغلب احاديثه كانت عن مشاريعه المستقبلية.. فبهذا كان يطرد وحشة العمر والمنفى والخسارة !
لم نتحدث يوما عن الموت واحتمالاته.. فما زال العراق مدينا لهم على ما قدموه : لقد دخلوا سجون الحكومات العراقية وذاقوا مرارة المنفى لعقود في زمن البعث وقضوا العمر في الحلم ببغداد واهلها.. لكنهم في النهاية لم يجدوا مكانا لهم غير ذلك الفندق المتواضع في البتاوين !
***
وفجأة مات حميد حساني!
هذا قطع غريب ومؤلم في سيناريو لم يفكر به حتى حميد حساني ..
فماذا اقول الان ياحميد؟!
لقد كبرنا على الندب والبكاء.. لكن:
لك علي ان امر بشارع المشجر في البتاوين واجلس في تلك المطاعم والمقاهي وانتظر ان يسالني احد عمالها عنك، فاقول له انك مت فيتاسف ويعزيني بك ! ولا شيء اكثر من هذا !
ساسعى للحصول على تلك التعزية .. فتلك حصتك، وربما حصتنا في مشوارنا الحزين !
ملاحظة
البتاوين محلة شعبية في بغداد