صاحب «الرجع البعيد» يردد رجعه رغم الغياب / محمد النبهان

2007-11-12
فؤاد التكرلي: حياتي تصلح أن تكون رواية عظيمة 


قال الروائي فؤاد التكرلي حين بلغ الثمانين: «ماذا نريد من الحياة..؟ أو بالأصح ماذا أردنا أن نعمل في هذه الفترة الزمنية القصيرة؟ علينا، من أجل راحة القلب، أن نحصي الانجازات التي حققناها، فهي التي قد تمنحنا راحة نفسية وتجعلنا قادرين على مواجهة المجهول القادم. أما ما لم نقدر على فعله فذلك أمر محتم على البشر جميعا ولا يستدعي أن نشقى من أجله. ذلك أن لا سبيل لتغيير الماضي مطلقا، فلنضعه على جانب ولنتذكر الانجازات التي - ربما - منحت حياتنا معنى ساميا لا ينال بسهولة.
أدري لماذا أتذكر بهذا الشأن مقولة لنابليون وهو في سنوات عمره الأخيرة في جزيرة هيلانة: بعد كل شيء، فإن حياتي تصلح أن تكون رواية عظيمة».
ويبدو ان الرواية العظيمة انتهت اخيرا فصاحب رواية «الرجع البعيد» الروائي العراقي فؤاد التكرلي غيبه الموت بعد أقل من سنة باحتفاله بعيد ميلاده الثمانين، يوم أمس الأول (الاثنين) عن عمر ناهز 81 عاما في العاصمة الأردنية بسبب مرض عضال. تاركا وراءه حياة يتردد رجعها إلى بعيد يقترب من الوجع والألم العراقي.
والتكرلي قصة رواية عظيمة، نشرت عنه صحيفة الصباح الجديد العراقية العام الماضي ملفا ببلوغه الثمانين لكونه «لا يمثل ظاهرة مفردة ومنعزلة بل لأنه يشير إلى أكثر من حقيقة وأكثر من رمز.. من هذه الحقائق ما يسعى النسيان والإهمال إلى اختطافه منا.. من ذاكرتنا وبالأحرى من حياتنا، فالتكرلي من أفضل وأجمل تعبيرات الذات العراقية الحرة والمنطلقة على هواها وبما تمليه سجيتها».
وهو حين يتحدث عن نفسه يتحدث بهذه النكهة الروائية الفريدة، يقول في مقابلة صحفية أجريت معه: «الماضي، بشكل أو بآخر، هو سجلّنا غير المدوَّن... وهو عندي مرجع لأشياء كثيرة، وأنا أحاول ألاّ أسترجعه أو أستغرق فيه أكثر مما ينبغي. لديّ نزوع دائم لعدم نسيان تفاصيله، فهي مادتي الخام - كما تراني أُكرر - وهي ينبوع أعمالي».
ولأنه آخر الراحلين من جيل الخمسينيات في العراق، جيل الريادة الحقيقية في القصة العراقية بعد رحيل ممثليه الأساسيين: غائب طعمة فرمان (1927-1990)، عبد الملك نوري (1921-1998) ومهدي عيسى الصقر (1927-2006)، تشكل حياة التكرلي مادة ثرية في التعرف على بدايات القصة العراقية والعربية. حيث «أسس (مع الرواد) لشكل جديد في النثر العراقي يوازي ما صنعه مجايلوهم في الرسم والنحت والشعر، بدأوا كتابا للقصة القصيرة، واعتبرت مجاميعهم وهي ليست الأولى دائما بين الكتب التي أصدروها: «نشيد الأرض» لنوري، «مولود آخر» لفرمان، «الوجه الآخر» للتكرلي، «مجرمون طيبون» للصقر، تجاوزا نوعيا للتجارب التي قدمها الجيل الذي سبقهم: محمود احمد السيد، عبد الحق فاضل، ذنون أيوب، وكانت قصصهم الموجزة والمكتوبة بلغة تجمع بين العامية والفصحى تستفيد من الأشكال الفنية المعاصرة للسرد وتبتعد عن الخطابة والفجاجة، كانت تحاول أيضا أن تعبر عن هموم الإنسان العادي، عن مجتمع مديني يتأسس ومظاهر حياة يعاد تشكيلها. في الستينيات انتقل فرمان الذي عاش في موسكو حتى وفاته إلى مستوى تعبيري آخر حين اصدر روايته «النخلة والجيران» 1966 التي عدت التجربة الروائية الأكثر نضجا حتى ذلك الحين وحدّاً فاصلا بين مرحلتين، في حين اعتبرت «الرجع البعيد» التي نشرها التكرلي عام 1980 إضافة نوعية في السياق السردي العراقي تجاوزت تجارب أخرى نشرت في السبعينيات والثمانينيات لكتاب أصغر عمرا: فاضل العزاوي، عبد الرحمن مجيد الربيعي، عبد الخالق الركابي، عبد الستار ناصر وآخرين.. كما أن هذه الرواية التي نشرت في بيروت حسبت كموقف تحد من الكاتب بعد حظر نشرها في العراق لأنها تتناول جوانب من تجربة البعث الأولى في الحكم عام 1963، كما أنها رسخت من موقع كاتبها إنسانيا وفنيا».
ولأن العمل الأدبي يشتبك أحيانا مع الواقع «إلا أن التكرلي (بحسب رعد مطشر) كان على العكس من شخوصه وأشباه الشخوص، مكتملاً متّزناً منتظماً يحبُّ الحياة والناس ينشد لرعشة القلم وأنّة الورق. وانفراد الكفّ والسياق.. على العكس تماماً من أشخاصه الراغبين في تدمير الذات، الباحثينَ عن نفحة عطر في جسد امرأةٍ مبلّلةٍ بذكرى الأمّ الراحلة، أولئك المأزومين بكلَّ شيء، المنتحرين بانغلاقهم واصطدامهم برصاصٍ طائش، وعرباتٍ سودٍ تشبه كاتم الصوت.، وخرائبَ تعبقُ بضجيج الخراب وتناثر الأحلام والذكرى والهدف».
ولأنه تاريخ طويل من الإبداع والحياة رحل عنا دون أن يكتبها في رواية واحدة، موحيا للتاريخ أن يفعل ذلك.

سيرته.. نزعة بغدادية
- ولد التكرلي في بغداد عام 1927 وأكمل دراسته في كلية الحقوق عام 1946 وعمل موظفا في إحدى دوائر وزارة العدل. كما عمل قاضيا في بغداد عام 1964 قبل أن يسافر إلى فرنسا في إجازة دراسية، استقر بعدها في تونس عدة سنوات ثم من جديد إلى باريس و بيروت حتى استقر في العاصمة الأردنية حيث توفي.
- بدأ كتابة القصة القصيرة في أربعينيات القرن الماضي، ونشر أول قصة بعنوان «همس» في مجلة الأديب البيروتية عام 1951 وأصدر مجموعته القصصية «العيون الخضر» عام 1957.
- من أبرز أعماله الروائية «اللاسؤال واللاجواب» (2007) و«خاتم الرمل» (1995) و«الرجع البعيد» (1980) والمجموعة القصصية «الوجه الاخر» (1960) و«موعد النار» (1990).
- كتب عنه الناقد الأدبي د.علي جواد الطاهر: «إن التكرلي ليس قصاصا وحسب، انه مثقف في فن القصة، وفي علمها: قواعدها، قوانينها، سماتها». أما القاص والروائي محمد خضير، فقد قال، معقبا على بعض أحداث وشخوص روايته «الوجه الآخر»: «نحن الآن نشم فيه النسمات الأخيرة لشارع الرشيد». ولم ينس الروائي علي بدر أن يؤكد حقيقة مهمة في ما قدمه التكرلي حين قال «إن الأجيال القادمة ستتذكر أن ملامح الشخصية العراقية موجودة في أعمال فؤاد التكرلي». كما أشار الناقد والشاعر فاروق سلوم أن فؤاد التكرلي «أصر على النزعة البغدادية المدينية.. مقابل أي اتجاه آخر، كان رهانه العالمي على هويته».
                                                                                              عن القبس 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved