قبل اكثر من شهرين, أهدتني الباحثة والمبدعة العراقية من أب انكليزي "أمل بورتر" , كتابا أعدته وترجمته عن الانكليزية حيث طبع هذا العام عن دار فضاءات للنشر والطباعة - الاردن, والكتاب سيرة حياة ومذكرات رحلة امرأة عراقية تدعى "ماري تيريز اسمر" , ولدت في 1804 في تلكيف وهي من اعمال مدينة الموصل في العراق ..
ماري تيريز اسمر .
لابد ان نحفظ هذا الاسم جيدا , حيث أغفله وتجاهله تاريخنا وثقافتنا اكثر من قرنين من الزمن, ويالها من خدمة جليلة تلك التي قدمتها لنا المبدعة أمل بورتر , بفك سجن تلك المرأة وكتابها الذي قبع بلغة اخرى في مكتبات الغرب , بعيدا عنا , تطلقه امل بورتر امامنا حرا ينطق لغتنا لتمنحنا متعة لامحدودة , تحكي حياة امرأة حملت رسالة انسانية كنا بأشد الحاجة لها ولمفاهيمها التي ركزت عليها تلك المرأة الفذة المؤمنة بالحق والباذلة من اجله, والعاملة في سبيله بلا كلل رغم المصاعب والأخطار , متمثلة دور الانبياء والرسل وعظماء التأريخ ..
ماري تيريز أسمر , اسم جدير أن يعلق على واجهات المدارس ومراكز التربية والتعليم ليحفظ كل انسان ماعانته تلك المرأة , وما حمله قلبها وجسدها من آلام بسبب ايمانها بالعدالة والحق والتضحية في سبيلهما, ان ماري تيريز أسمر المسيحية التي كانت ضحية من ضحايا التعصب الديني حيث يقتل ابوها وذويها وتسلب اموالهم وتشرد هاربة من الموت الذي لاحقها لا لسبب, فقط لأنها تنتمي لدين السيد المسيح الذي تقلد اخلاقه في التضحية والعطاء والعمل من اجل الاخرين طوال عمرها وبلا انحياز لدينها او تعصب له وبأرقى مما نراها اليوم حتى عند اشد الناس التزاما بالقيم الانسانية , فاي عقل مليء بالنور والمحبة كان عقلها ..
المؤلم بالأمر ان يتم تجاهل كتاب ماري تيريز اسمر من قبل العالم العربي الذي كانت تفتخر به تلك العربية الزاهدة بالحياة حبا بالناس, والمضحية التي أرادت محاربة الجهل بمحاولاتها المتكررة فتح مدرسة للنساء او اعطاء دروس بالمعرفة والحكمة , او خدمة المقهورين والضعفاء في العالم بغض النظر عن الانتماء , فأين هم الباحثون والمترجمون العرب وما اكثرهم في بريطانيا التي استوطنوها كمنفيين ولاجئين وباحثين عن العلوم والرزق منذ عهد الدولة العثمانية حتى اليوم , كيف غاب الكتاب عن أعين العرب كل تلك السنوات؟
هل هو موقفهم المتعصب من المرأة ؟ ام موقف الخائف من الدخول في المحرمات والتابوهات المفروضة على الشعوب العربية اينما كانت . ام موقفهم من ديانة ماري اسمر.؟
أميرة بابلية , كتاب من امتع الكتب واكثرها اثارة للجدل , وهو رحلة من اجمل ماتكونها رِحَل العذاب بحثا عن اسرار الطبيعة والانسان بما يمارسه من خير وشر , وهو رحلة الصداقة والجمال والحق ومعرفة الذات البشرية غربا وشرقا , وفضح المفاهيم الخاطئة عن مجاميع وشعوب سكنت الصحراء او سكنت الجبال او عاشت في احدث حضارات الغرب , كما سلطت الاضواء ووصفت بقدرة وبدقة أخاذة سحر الشرق والمتع الباذخة في ازمان عثمانية انعدمت بها الحرية وضاقت النساء باسوار الحريم , وتم استعباد البشر بها واذلالهم لأسباب سياسية ودينية وقومية ..
كيف ضاعت عن العالم العربي رحلة ماري تيريز اسمر؟ تلك المناضلة والمؤمنة اكبر الايمان بالانسان والمدافعه عن ضعفه في اشد الحالات والظروف حلكة وسوادا , كيف لم تجد الثقافة العربية كتاب " أميرة بابلية " , الصادر باللغة الانكليزية عام 1844 وكما تذكر المبدعة امل بورتر التي سخرت نفسها لمدة خمسة اعوام في البحث عن معلومات توصلها وتقربها من الراحلة ماري تيريز اسمر ,فتقول:
"صدر كتاب ماري في لندن 1844عن دار نشر مرموقة ومحترمة , ولا اعرف بأية لغة قد كتبته ماري, وتخميني بالعربية لعدة أسباب, ففي الطبعة الانكليزية الصادرة بذات العام 1844 يشير الناشر على ان الكتاب مترجم , لكنه لا يشير عن اية لغة, ولا يقول من هو المترجم. توفيت ماري اسمر عام 1854ونشر ذلك الأمريكان عام 1926- اي بعد 27 عاما من وفاتها - في كتاب كرمت فيه كاحد عظماء اواسط القرن التاسع عشر من قبل جامعة امريكية مع الكثير من العظماء , مثل هانس كرستيان اندرسن , توماس هسكلي, جفرسون توماس, سركون سنحاريب, ماري ملكة اسكتلندا, الغزالي , فرنسيس بيكون , بايرون, دانتي وغيرهم من الاسماء المشعة, ولكن كيف عاشت ؟ في اي بلد؟ واية مدينة قضت ايامها بعد كتابة سيرة. مازلت ابحث عن قبر ماري ومافعلته مابين عام 1844 وعام وفاتها , ولحد الان انا ابحث عن ابرة في كومة قش, ولا من معين او بصيص نور يدلني عنها, وسوف لن اتوقف عن البحث, لا زلت اقلـّب الملفات في المكتبة البريطانية , ذهبت الى العراق ولا من احد يعرفها , وجدت افرادا من عائلتها في امريكا , لكن معلوماتهم لاتتجاوز اسمها وبأنها قريبتهم فقط , فيالبؤس ثقافتنا الشفهية التي تكره التدوين !"
نعم ايتها الباحثة والمبدعة امل بورتر , يالبؤسنا حينما تبزغ من ارضنا امرأة يعدها العالم من العظماء ونجهلها نحن ولا نعرف عنها شيئا , يالبؤسنا حينما ننسى اصحاب القيم والمضحين من اجلها لتجد الرذائل لها مكانا ومستقرا بين ظهرانينا وتقودنا الى الخراب.
وشكرا لايحصى لك أمل بورتر وانت تزيحين الغبار عن نبوة قتلناها بايدينا . ويالحسرتنا لضياع مائتي عام دونما نعرف هذه المرأة العظيمة الثقافة, والواسعة الفهم لفلسفة الحياة والموت , والعارفة بالطبيعة الانسانية, الاديبة والمعلمة التي مرت بتجارب تمنح فائدتها للبشر ابداً, فكتابها الساحر الذي تمنيت وانا أقرأه ان لاينتهي , جعلني اتعلق بها , مستني روحها واصابتني برغبة البحث عنها والاهتمام بكل تفاصيل حياتها وماقالته وكتبته, فأية روح قوية كانت, لتتخطى وتتجاوز كل الدهور وتحضر بسطوع باهر ,انها حقا - وانا أعي ما اقوله تماما - ليست كأية امرأة واسم اشتهر في كتبنا بل هي أعظم امرأة عربية في تاريخنا بلا منازع .
فكيف تهمل وتنسى ؟ رغم ان عنوان الكتاب " اميرة بابلية " يدل على ان كاتبته أرادت ان تعلن فخرها الانتماء لتلك الأرض فتظهر بهذا العنوان رغبتها الكبيرة بان يستدل أهلها المنتمون لوادي الرافدين على ما أرادت ايصاله لهم من رسالة انسانية حكيمة بعد رحلة الضياع العسيرة التي كابدتها تلك البطلة الفارعة المكانة والواثقة كل الثقة بما تفعل وتنوي..
لماذا نـُسيت اميرة بابلية؟ وهي سيرة زاخرة بدروس التسامح والمحبة بين البشر, فهاهي البطلة تمنح سماحها لقاتل ابيها وأهلها بأن تتوسط بمنحه رسالة الأمير الذي حماها لتفك عن حبل المشنقة ابن ذلك القاتل المسلم, لن تفكر بالتشفي ولا بالانتقام ابدا , فأية قيمة ودرس ترسمه دروب آلامها التي مر بها المجتمع العربي نتيجة الفوارق والطائفية والتطرف الديني الذي يعيد الشعوب للوراء, حيث يتم خلط الدين بالمصالح السياسية ليدور مجتمعنا العربي بدوامات انتهت منها المجتمعات الغربية بفصل الدين عن السياسة كرامة للدين , وحلا ً للمعضلات التي تهدده بالانقراض..
ماري تيريز اسمر, تشمخ مذكراتها في الغرب بكل عقلها الذي ينطق بتسع لغات, وتجارب رحلات مليئة بالمخاطر والأهوال, ومثل نبيـّةٍ نرجمها نحن باللامبالاة وهو اشد من الحجارة , بعد ان رأت بعينيها كل مانحن به اليوم, صرخاتها ودموعها وحيرتها التي لم نأبه بها وهي تحذرنا مما نرمي به انفسنا الى الهلاك , رسالتها التي اغلقنا الاذان عنها مائتي عام لنتخبط اليوم بذات الاقدار الحمقى التي شردت ماري وقتلت اهلها , وهي ذات الأسباب التي تجعل جميع الديانات والطوائف العربية تلهث بلا مستقر باحثة عن فردوس مفقود , فردوس يبرق أمام اعينهم التي غشيت , فردوس يقتلونه بأيديهم غدرا وعمىً وتعصبا مقيتا بعيدا عن الحقيقة المطلقة التي هي الانسان بغض النظر عن اي انتماء ولون ولسان ..
والانسان عند ماري يعني المحبة والعطف والتآخي والتضحية وحب الوطن , فنقرأ روحها حين ترى حيوانات الشرق في اقفاص حدائق الحيوان الغربية تقول:
"ان الوحدة وحالة النفي التي تعيشها أغلب الحيوانات تلك لامست قلبي , شعرت بتعاطف معهم, اغلبهم مثلي كانوا من اجواء اسيا المشعة وكذلك غرباء وحيدون في ارض غريبة " ثم تقول للجمل بأسى المنفي عن الوطن , والموجع بحبه :
"هنا لا يتوجب عليك ان تقطع الصحاري القاحلة وأنت تئن تحت ثقل الأحمال, ولايـُفرض عليك تحمل العطش الشديد, ولكن ألا تفضّل كل تلك الصعوبات في أرض موطنك على ان يطول حبسك وتبقى تحت سماء غير انيسة ومزرية , هنا لاتـُكلف بمهمة ولايـُعتمد على فطنتك"
آه اختنا في النفي وعذابات الوطن , تتحدثين عن اوجاعك واوجاعنا , وقد قلت حقا ماسمعناه , ففي الغربة تتعطل طاقاتنا اذ يسحبنا حب الوطن عنوة ليبطلها يوميا , ساخرا منا صارخا بنا :
حبي يكبـّلكم ويجعلكم غير صالحين سوى لي ...
بلقيس حميد حسن
balkis8@gmail.com