(سماوات السيسم) .. وعطر الماضي

2017-02-05
//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/fbcbb017-6e16-432d-b58d-6cfb277267ab.jpeg

الشاعرة العراقية بلقيس خالد تتوج مشوارها الشعري بالوليد الثالث الموسوم ( سماوات السيسم ) بعد مجموعتيها الشعريتين ( إمرأة من رمل ) عام 2009 و( بقية شمعة ) عام 2011, الصادرتين عن "دار الينابيع" في دمشق .
تكرّسُ الشاعرةُ جُلّ قصائدها في هذه المجموعة لإستحضار الماضي وللخوض في مجالسه وحدائقه وحكاياته وبراءته . سنوات الطفولة، دفق الخطى الراكضة والتي تحاول اللحاق بالأحلام . الناس الذين ينتمون الى هذه الشريحة الزمنية وكأنهم أنصاف آلهة – بالمعنى الأسطوري – لأنهم يتخمون الحياة بأفعال البطولة، ويغرقونها بخصال النبالة والفروسية وكل صفات القيم المتفق على سموّها .
 //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/801ecd54-a7a5-42cf-9f2c-01be76cf167f.jpeg
 
وهنا تقفز جملة من الأسئلة . هل الماضي في فتوته، كان في قمة الهرم الأخلاقي ؟، وهل كانت أفعال الناس مثالية سواءً في سلوكهم اليومي أو في طقوسهم الحياتية المختلفة ؟
وحينما نترصد لدراسة ذلك الزمن، لا يبدو أنه كان مثاليا، بل كان يحمل الكثير من الأوجاع والمثالب والمنغصات والآمال المعلقة على مشجب الوهم أو الإنتظار ! إذن مالذي يجعل الشاعرة تستعر في لهيب الحنين اليه ؟ اليس تدهور الحاضر وإنحداره، وتراجعه حتى في المكتسبات الضئيلة التي ألفناها وتعودنا عليها، الشحيح منها والكثير . لقد إنحسر هذا النزر اليسير وأصبح الحاضر مفعما بالأضداد والفجائع والإحباطات والهزائم، مما جعلنا نلجأ الى الماضي عبر الذاكرة، فنعتد به ونتسامى اليه باعتباره مثاليا قياسا الى فجور الحاضر . ذلك الماضي الذي طارد ذاكرة الشاعرة وهي تتبادل الأدوار في الزمان والمكان . فمرة تصبح جدة تراقب ألعاب أحفادها الألكترونية وحكاياتهم . ومرة تكون هي الطفلة التي تلوذ بجذع جدتها.. إنه تناوب جميل إشتغلت عليه الشاعرة، وكأنها تجعل من الشعر رؤية نحو الأبعاد الزمنية التي أحاطت أجيالا متعاقبة . لذا فقد نصبتْ للقارئ فخا، تحذره من مغبة اللحظة الراهنة . فهي لا تعبر عن عواطف عابرة وإنما تجعل من النص همّا معرفيا وفلسفيا، يتناول إشكالات حياتية مختلفة .
يتحول الماضي إلى ( أنتيك ) من خلال صندوق السيسم المشبع برائحة الأشياء التي ذوت ذات غفلة . والأمتعة التي بقيت تلسع جلد اللحظة، نص يتأمل الطارئ من ركام الحياة في محاولة مستميتة للقبض على جمر اللحظة . حيث الذكريات التي تتلصص من حاضر شحيح في عطائه، كريم في أوجاعه . هذا الحاضر لا يتورع أن يتهم الناس ومنهم شاعرتنا بجريمة التلبس بمعاقرة أحلام اليقظة . تلك الأحلام التي تنسجها مخيلتها الشعرية للهروب من هذا الحاضر الحجري المعجون بالألم .
هل نحن متعصبون للماضي، أم مجبرون على تجرعه رشفة رشفة ؟ ربما لأننا توقفنا عن النمو وأصبحنا ننتمي الى إطار لحظة تتموج بظل الطفولة البهي . لكنها طفولة مفجوعة بأحداث جسام لا تتلاءم مع مقاسات مخيلتها الصغيرة .
الشاعرة تقذفنا في لهيب الحرب الطاحنة التي فجّرت أحلام الطفولة في اللعب . أليس من حق الطفولة العراقية ان تمارس براءة ألعابها ؟
"جدتي، هذه طائرة شبح، لا عصفورة !
جدتي احترقت البصرة . إنظري"
وتقذف بنا الشاعرة مابين عاصفة الصحراء ومابين ألعاب الفيديو التي تحترق من خلالها البيوت . هنا يتحد الاحتراق الحقيقي باحتراق ألعاب الكومبيوتر الكاذبة .
ألسنا نشارك الشاعرة في لعبة النوستالجيا ؟ تلك التي جعلتنا نعتكف عن اللحظة المعاشة بكل ماتحمل في طياتها، والهروب الى الأمس، الطفولة، حكايات الجد والجدة، البيوت التي تلوذ ببعضها، ألفة الحياة المزخرفة بالعطاء، والدعاء والمحبة، ودفء الامنيات الصغيرة . إنها النوستالجيا بوصفها الحنين الى الماضي بمعطياته العاطفية والذهنية تلك التي جعلت الشاعرة بلقيس خالد تتسلل من تصحر اللحظة المعاشة حيث شظف الحاضر وثقله، الى الماضي بكل بهائه وبساطته وحتى لوعته .
" زمن بارقُ، يستعيدني
ينزهني في ورداته المتوهجة عطراً "
لقد توقفت عند الزمن من خلال صندوق السيسم الخشبي . الذي ينتمي الى الماضي ببعده العاطفي والتراثي . حتى أصبح توأما للصوت الشعري الأنثوي الذي كان يتمنى أن يختفي في فضاء هذا الصندوق الضيق في مساحته، والشاسع في أبعاده . الصندوق الذي عكس ملامح مدينة تصدعت في ملامح أسمائها وعمق تكويناتها التي إندثرت، كساعة ( السورين ) وسوق المغايز .
تلك المدينة التي كانت تتسع لأبنائها وتمنحهم بعض الفرح .
ثمة افتتان بالماضي، حيث الحنين وإشكالية الروح المتأرجحة بين حاضر حجري الملامح وبين ذكريات تختبئ فيها من سطوة حاضر لا يرحم . والذي يجعل القارئ يتعاطف مع نصوص الشاعرة لأنه يدرك ان الماضي الملوث بمثالبه، هوالفردوس المفقود، من خلال قيمه وسلوكياته ومفرداته وثقافته وحتى نكهته . لذلك فقد انشغل النص الشعري في إعادة صياغة ذلك الماضي الذي تحول الى زمن ذهبي . حتى أن الإنسان فضّل أن يبقى طفلا الى الأبد .
لقد رسمت الشاعرة صورة بهية للأمومة متمثلة ببهاء الجدة/ الأم . التي تشبهها بالشجرة السامقة :
"شجرة ترفل بالهاشمي، بدانتيله الفاخر .
تتأنى في إرتداء فوطتها الجديدة، يتأرجح المسك والعنبر"
وحينما تصف حزن الأم وبكاءها. فليس هناك ألم يماثله في الصدق واللوعة :
"مختلف بكاء أمي، حين تنزف حنجرتها
لحنا، يتحدى عينا لا تدمع "
وإذا كان الرجل يمر مرورا عابرا، وكأنه جزء ضئيل غير مؤثر الآ في إكمال صورة الأم /الجدة كما في قولها
" قداحة جدي وعلبة سجائره " أو " إبتسامة أبي، بسدارته العسكرية "
لذلك فالرجل يبقى على هامش الصورة الكبيرة التي تتصدرها المرأة . في طفولتها وفي شبابها وفي كهولتها . إنها الانسان الذي يحلم أو يصنع الحياة أو يتلمس أسرارها . المرأة التي حملت كل سماوات السيسم وذكرياته وآلامه . المرأة الأسيرة خلف جدران البيت
"لا يطيقني البيت، يريد افتراسي"
ليس من سبيل لها لملامسة سطح الحياة سوى الحلم الذي يتحول كبديل للفعل . المرأة المكبلة سواء في سن الطفولة أو الشباب، ليس لديها سوى رسم عوالم انعتاقها .
"على جدار حجرتها أرسم نافذة
فاحلمني هديلا . تبتسم ثانية
النافذة صرختك ضد الجدار "
حينما تكرس شاعرة ما مجموعتها الشعرية كاملة لثيمة واحدة، محورها الجدة ! فهل تعني جدتها بحد ذاتها ؟ أم أنها تعني أكثر من ذلك ؟
إنّ ثراء الأفكار التي تتسرب من بين النصوص توحي أنّ الشاعرة كانت على وعي كامل بالرسائل التي أرادت إيصالها . وهي أنّ المرأة كيان يمتد عبر الأجيال، وإنها تمنح دون أن تأخذ شيئا، وإنها تضحي بحياتها في سبيل أنْ يعيش الآخرون . الجدة التي تمثل حارسة من الجيل السابق للجيل الجديد لاتختزن عاطفة المحبة فحسب، وانما تمتلك الحكمة المستخلصة من الحياة . كما أنها قوية، تتحدى حتى عوامل المرض والإحباط والخيبة . فحينما عميت رفضت قبول ذلك حينما صرخت
" حين غمر الماءُ عينيها، صاحت بنا
لست عمياء، . الكون إنطفأ "
كما أنّ الجدة تدرك سرّ العلاقة مابين الناس والوطن، وتشبهها بقطرات الماء التي تتساقط على صفيح المدفأة الساخن . هذه القطرات /الناس التي تتطاير ولكن سخونة المدفأة تجعل القطرات تلتصق :
" سألتها عن وطني
تنهدت، ثم بالماء، بللت كفها، نثرت قطرات
القطرات تقاوم والنار تركل القطرات
تقاوم تقاوم، وهنتْ فإلتصقت بالسطح .."
هل كانت تريد أنّ تقول : ليس ثمة هروب للبشر الحقيقيين من جحيم الوطن . وإن توهجه هو القادر على استقطابهم ؟ الدلالات الفكرية المتناثرة في المتن، تتسع لهذا الإحتمال .
وفي قصيدة أخرى في السياق ذاته، تجعل من عظام القتلى والمقابر الجماعية ضوءاً للوطن . على اساس أن الضحايا الذين ماتوا رعبا وكمدا، قد انتصروا في النهاية . لكن انتصارهم كان ناقصا حيث خذلهم من لاذوا بمصائرهم، من متصيدي الفرص، ومن حثالات المجتمع الذين تحولوا الى جلادين، وبقيت الشاعرة تبكي عظام الضحايا .
ولعل قصيدة ( لاهديل بعد الغروب ) تمثل صورة درامية للحالة العراقية المخضبة بالدم حينما تذهب الجدة مع حفيدتها الى مسجد الخطوة، حينما يحدث الإنفجار والعصف الذي يهشم جسد الطفلة، التي عبرت عن الوطن الذي مزقه العنف والإرهاب :
"من الشظايا المتطايرة لم ينج جسدها النحيل
حاولت ان تلتقط شيئا من أنفاسها الهاربة، أنْ تنوشها بقامتها كلها
أيتها الصغيرة الغافية في أحضاني حالمة بالعيد، إنهضي ..."
للمعتقدات الشعبية حضور جلي في كثير من قصائد المجموعة . فقد وظّفت الشاعرة بلقيس خالد الميثولوجيا في كثير من نصوصها . وهذا التوظيف قد لايساهم في إغناء النص، اللهم إلا إذا أرادت أن تجعل من هذه المعتقدات جسرا يوصلنا الى ماض نقي في سريرته وغرائزه ونواياه . إنه ماض لم يلوثْه زَبَد المدنية التي سطت على كل شيء . ولكن المعتقدات التي يميل المزاج الشعبي الى تبنيها . لم تُدعمها معطيات العلوم الحديثة ولا المنطق العقلي . ولكن نصوص الشاعرة لم تكن رافضة بل كانت متماهية مع الكثير منها :
"وهي تداعب وجهي
همست: لا ترمي الماء على حصاة"
وفي مكان آخر
"قبل أنْ تبعثر الريح
ارشقيها بالماء خطواته"
ثم في نص آخر
" لا تكوني لجمر العيون حطبا
بيدك أضربي الخشب ".
لقد تناولت الكثير من المخاوف والمحرمات التي يزخر بها الأدب الشعبي، كالخوف من الكنس عند الغروب، والعطسة وآثارها على تغيير المسعى أو تأكيده . ثم الحرمل والمكحلة، وحك الأنف . وركوب النعلين على بعضهما .
" اعتلى النعل توأمه
نظرت صوب أبي قائلة : ستسافر.. الآن هو في المنفى .."
أحيانا يكون موقف النص محايدا من المعتقدات والممارسات، وأحينا يبدو على النص وضع المعتقد كما هو، لكي تفنده حقائق الحياة الصادمة، كما حدث في إنفجار الخطوة حيث آمنت الجدة بأنّ ( في التأني السلامة ) . لذلك لم تستعجل في سعيها نحو المسجد وتباطأت عمدا . وكانت النتيجة أن المسجد في تلك اللحظة الخطأ قد تعرض الى إنفجار أودى بحفيدتها . أحيانا يبدو على النص تصديق الموروث من المعتقد، لأنه يحمل نكهة الغريزة للبشر الفطريين الصادقين والذين يعيشون حياة من الدعة والوئام والمحبة والتآلف، ونظرا لعدم توفر المعطيات العلمية، فإنّ البشر يعتمدون على موروث هائل من التصورات التي هي جزء من تركة هائلة لفلكلور الشعوب المتجاورة .
لعل قصيدة ( ابتسامة جدتي )، وهي مسك ختام المجموعة، قد باحت بجملة أفكار ناقشتها هذه القراءة للمجموعة الشعرية . فقد أوجزت الشاعرة عبر هذا النص رؤيتها عن الذاكرة التي تمثلها الجدة . تلك الذاكرة التي توقفت الشاعرة في إنحناءاتها ومنعطفاتها الزمنية والمكانية، وأكدت أنّ الذاكرة مخزون يهب الحياة سحرها وسر ديمومتها . كما تناولت سحر الشعر على النسوة المتعبات . وتفاعلهن مع روح القصيدة .
وفي كل ذلك، فقد كانت المجموعة الشعرية ( سماوات السيسم ) برمتها محاولة لبناء عش حياتي هادئ، تتجاور فيه الطفولة البريئة بجذورها . وتتلاقح فيها الأجيال المتعاقبة، وتلتحم فيها العواطف الجمعية لمجتمع أصبح عرضة للشرذمة والتشتت . إنها قصائد تلوذ بالذاكرة من حجرية اللحظة الزمنية الراهنة المعجونة بشتى انواع الألم .
الشاعرة بلقيس خالد تمتلك خامات فكرية ومعرفية، مشفوعة بلغة ساحرة وصافية وأنيقة قادرة على التعبير عن أعمق السمات الراقية التي يختزنها الإنسان .

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved