سوف يقتله التمساح

2016-08-29
كانت " العجوزة " التي لا يزال حيٌّ من أجمل أحياء القاهرة يتسمّى باسمِها، تتولّى، في مصر، أمرَ القاهرة .
وكان لها ولدٌ وحيدٌ، منحتْه من حنانها وحُبِّها ما يليق بولدٍ وحيدٍ لسيّدةٍ عظيمةٍ .
ومن فرْطِ خوفِها عليه، أرادتْ أن تطمئنَّ عليه في الآتي من أيّامه .
استدعت " العجوزةُ " المنَجِّمين، ليقرأوا طالعَه .
اجتمع هؤلاء المنجِّمون في غرفةٍ ، وحدَهم، ليتأمّلوا، ويتقبّلوا ما قد يواتيهم من عِلْمٍ بالغيب .
و " العجوزةُ " في مجلسِها، تنتظر .
مرّت ساعاتٌ وساعاتٌ، والمنجِّمون في غرفتهم، لم يبرحوها .
ضاقت " العجوزةُ " بالحال ذرْعاً .
أمرتْ بأن يؤتى بالمنجِّمين إليها .
جلسَ هؤلاء، صامتين .
قالت " العجوزةُ " : ما النبأُ اليقينُ ؟
ظلّوا صامتين .
ثانيةً، قالت : ما النبأُ اليقينُ ؟
همسَ أحدُ المنجِّمين : نرجوكِ أن تعطينا الأمانَ .
قالت : لكم ذلك . لكنْ، ما النبأُ اليقينُ ؟
قال كبيرهم بصوتٍ مرتعشٍ : سوف يقتله التمساحُ !
*
انتفضت " العجوزة"، وأمرتْ بأن يُرفَعَ جدارٌ عالٍ، يحجبُ النيلَ عن مَرْبَعِها بالقاهرةِ، فلا يرى الولدُ النهرَ
حيث التماسيحُ . 
ثم أسكنتْ وحيدَها، غرفةً، في موقعٍ بقصرِها، لا يمكنُ أن يُرى منها النيلُ .
وأخيراً، لم تترك الولدَ يقرأُ  حيث يقرأ الصِّبْيانُ .
جاءتْه، على طريقة أولادِ الملوك القدامى، بمن يُعلِّمُه الكتابَ والحكمةَ وأمورَ الطبيعةِ  والطبائع .
كان الولدُ نبيهاً، شغوفاً بالعلمِ والتعَلُّمِ، مُلْحِفاً في السؤالِ إنْ غمُضَ أمرٌ أو استعصى فهمٌ .
*
في درسٍ من الدروسِ ، كان المعلِّمُ يُفَصِّلُ لتلميذه، عالَم الحيوانِ، الآبدِ منه والأليفِ .
ما يسعى ويزحف على البرّ، وما يسبح ويَلْبِطُ، في البحر والنهرِ .
وكان الدرسُ مشفوعاً بصوَرٍ ذاتَ ألوانٍ، رسمَها رسّامٌ إسكندريٌّ معروفٌ .
*
وصلنا إلى إفريقيّةَK وأنهارِها، ووحوشِها .
ثم إلى نهرِها الفريدِ الذي يجري شمالاً، النيل العظيم ...
ثم إلى ما في النيل من سمكٍ وسواه .
كانت الصوَرُ بالغةَ الجمالِ والتفصيلِ .
استرعت انتباهَ الولدِ صورةٌ  لمخلوقٍ نيليٍّ عجيبٍ، مُخيفٍ، ذي حراشفَ وأنيابٍ وعينين جاحظتَينِ .
سألَ الولدُ مُعلِّمَه : ما هذا ؟
أجابَ المعلِّمُ :  التمساح .
سأله الولدُ : أيعيشُ هنا، في هذا النيل ؟
( لم يكن المعلِّمُ عارفاً بقصة المنجِّمين )
أجابَ : نعم .
*
انتهى الدرسُ، وانصرفَ المعلِّمُ .
وفي الغَداةِ جاءَ إلى موعد الدرسِ .
قالوا له : الولدُ مريض .
ما به ؟
كان محموماً يهذي : التمساح ! التمساح !
*
ولم يزلْ على  على هذا الحال، حتى توفّاه الله ...
*
لقد صدَقَ المنجِّمون :
سوف يقتله التمساحُ 
وإنْ كان في بُرجٍ مشيَّدٍ ...
لندن 05.12.2015
 

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved