قال الراوي يا سادة يا كرام:
كنتُ أتجولُ في حواري القاهرة منذ خمسين عام، في ليلة النصف من رمضان، فرأيتُ أطفالاً يحملون بيدهم "فوانيس" مزركشة بألوان مبهجة ويتنقلون من حارة إلى أخرى.. يغنون:
( وحوي يا وحوي، إياحه ... وكمان وحوي، إياحه ... رحتْ يا شعبان، جيت يا رمضان، وحوي يا وحوي ... هل هلالك والبدر أهو بان، شهر مبارك وبآلوه زمان، محلا نهارك بالخير مليان ... وحوي يا وحوي )
قال الراوي: ( وبعد أن حلوا الكيس وأعطونا مما أعطاهم الله )، خرجتُ من القاهرة قاصدًا جزيرة العرب، ووصلتُ إلى الكويت، وهناك رأيتُ المنظر نفسه، لكن الأطفال هنا يتنقلون وقد علقوا في رقابهم كيسًا من القماش الأبيض الذي خاطته لهم الأمهات؛ كما قيل لي؛ فيجمعون فيه الحلويات، ويتغنون: ( جرجيعانُ وجرجيعانْ ، بين إقصير ورميضان .. عادت عليكم صيام كل سنة وكل عام .. الله يسلم ولدكم الله يخله لأمه... )
وأكمل الرواي للتوضيح: ( إقصير هو شهر شعبان ورميضان تصغير وتحبب وتلطف بالشهر الفضيل رمضان ).
ثم يا سادة يا كرام لم يطل بي المقام هناك حتى انتقلتُ إلى أقصى الجزيرة العربية حيث وصلتُ إلى بلد جميل يسمى عُمان، وهناك رأيت المنظر نفسه يتكرر لكن كان بعض الصبية يضربون بحجرين في أيديهم مخرجين إيقاعًا جميلاً، وبعضهم يصفقون ويغنون متنقلين من حارة إلى أخرى : ( قرانقيشوه يو ناس، عطيونا شوية حلوى، دوس دوس، في المندوس، حارة حارة في السحارة، ليفه ليفه في التغليفة .. وقرانقيشوه .. يو ناس... )
ويشرح لنا الراوي قائلاً: ( المندوس والسحارة هما صندوقان، الأول منهما مزخرف ومحفور بنقوش،
وكانت الجدات والأمهات تحتفظ فيهما بأشيائهما الغالية أو المهمة.
ثم أكمل الراوي حديثه قائلاً : وكان للعربان جامعة تهتم بمشكلاتهم وقضاياهم، وقد سمعتْ بهذه الاختلافات التي أزعجتها كما يزعجها ما يقال عنها من شائعات، فتألمتْ لهذا الحال، وأحبتْ أن تدخل الألفية الجديدة بأغنية فيها من المعاصرة والحداثة ما يتناسب مع أهدافها الوحدوية ومع مستجدات العصرنة الإعرابية، فطرحتْ مسابقة لاختيار نشيد قومي رمضاني، وبعد الاختيار عممته على بني العربان. وتقول كلمات النشيد الجديد الموحد:
( مسلسلات، يو ناس، أعطونا شوية شيشه، دوس دوس بالفيروس، وامحو الحارة بالحفارة، ليفه ليفه، عادة سخيفة )
وهكذا يا سادة يا كرام بدأتْ تحولات رمضان، وبدأتْ هوية العرب تذوب وتوغل في الذوبان.
يقول الراوي: نعم لقد تألمتْ جامعة العربان، وللحق أقول إنها لا تستطيع إلا أن تتألم قليلاً وتنسى كثيرًا، وهي لا تحل ولا تربط، فمنذ عشرات السنين ومشاكلنا تلبط، ودماؤنا تُسكب، وما عليها سوى أن تحتج وتشجب، وتتباكى وتندب، وتتفلسف وتخطب... لكنها على أية
حال تألمتْ لعدم اتفاق العربان في أبسط الأمور كتحديد بدء رمضان برؤية الهلال، وكانوا يصومون جميعًا لرؤيته إذا ظهر في مضارب بني هلال، ويعيدون العيد في كل مكان إذا رأته مضارب بني ذبيان. وقد تعجب رمضان نفسه مما حدث له، فبعد أن كان الناس يستعدون لاستقباله قبل وصوله بأشهر، ويحتفون به بالتهليل والتكبير والدعاء فتسكب المنابر عطر السماء في الآفاق، وينتشر عبق الشهر الكريم في الحواس والأحداق، حتى كأن الناس يشمون ويسمعون ويرون ويلمسون ملامح رمضان قبل أن يأتي... أصبح رمضان اليوم غريبًا، وهو العربي التائه في ربوع العربان، فصار حاله حال المتنبي في شعب بوان، يتسكع ويقول:
( ولكن الفتي العربي فيها ... غريب الوجه واليد واللسانِ
ملاعبَ جِنْةٍ لو سار فيها ... سليمانُ لسـار بترجمانِ )
وخاصة بعد أن رأى العربان يتطاولون في البنيان، الذي أخذ ينبتُ كالفطر في الزحام، ورأى كل بلد تستعد بعشرات التمثيليات والأوهام... هل تصدقون يا ساده يا كرام أن بلدًا عربيًا أنتج لهذا العام فقط أكثر من (160) مسلسلاً تلفزيونيًا !!! واعجبي، كيف سيصرفونها ؟!
قلتُ وهل تصدق أيها الراوي أن المساجد تحيط بمنزلي من كل الجهات لكنني لا أسمع الأذان إلا بإرهاف السمع، وصدقني؛ لا لصمم أصابني فجأة - قولوا لا قدر الله، حتى ولو مجاملة- ولا لكون المكيفات التي تكيفنا جعلت بيننا وبين الخارج سدًّا، فأصبحنا لا نبصر ولا نسمع... بل لكون التحولات قد أصابتْ المساجد فأصبح الإمام يوشوش نفسه بالأذان، ويبدو لي أنه يفعل ذلك حتى لا يفسد حقوق الإنسان فمنهم النائم والتعبان، ومنهم الذي لا يفهم الأذان بدون ترجمان.. فأبناء العربان قد ضيعوا هويتهم ولغتهم، فكيف يستطيعون التهجد وتلاوة القرآن.
قال الراوي: أجل.. أجل، وقد سمعتُ في نبأ لوكالة عربان نيوز أن اللغة العربية قد تحولتْ أيضا بتحول اللسان، فأصبحتْ اللغة الرسمية لبني العربان هي الإنجليزية والعبرية والفرنسية والكردية والفارسية والهندية والبلوشية والسواحلية (الزنجبارية)، وقد أضاف
"مهند" أطال الله عمره، و"لميس" أفاء الله عليها من نعم الحسن أشكالاً وألوانْ؛ اللغة التركية، فوقعنا في حيص بيص، وضحك علينا جنود إبليس. وأكدتْ وكالة عربان نيوز بأن جحافل العربان الشقية، بعد عشرين عام من الآن سينقرضون من جنس البشرية.
اغتم الشيخ رمضان وبكى حتى ابتلتْ لحيته قائلاً:
وكيف تستبدلون بالتهجد والقيام السهر في الخيام؟!
قلتُ: ولكنها خيم رمضانية يا سيدي.
وكأنه لم يسمعني أكمل؟ وكيف تستبدلون الشيشة باللبن والتمر والثريد؟، ألا ما أتعسها من عيشة.
فتدخل الراوي وقال: بالله عليك يا شيخ لا تُحَمِل نفسك فوق طاقتها.
قلتُ: يا راوي.. لو وقف الأمر على هذا لهان.. فماذا يقول رمضان لو عرف أن مظاهره الجميلة اختزلتْ بل وتحولتْ إلى سمبوسك، وفيمتو، وزبادي، وجلي، وأجبان، وتعلم فنون الطبخ من الصين والهند وكراكاس واليابان، وذلك إكرامًا منا في تخمة الموائد ذات الأصناف والألوان.
فأنَّ رمضان واسترسل في البكاء ثم قال: وأين صلة الأرحام والأنس بالأحبة والجيران؟ وأين تلاوة القرآن؟!
قلتُ بخجل: يا سيدي الشيخ، وهل تركتْ لنا المسلسلات والفضائيات في سباقها لاستحواذ الاستحسان فرصة للتخلص من الغثيان...
قال الراوي: اسمعي يا ابنتي، اسمعي...
يا سيدي معذرة.. ابنتكم جرفها التيار.. وأصابها ما أصاب الناس... استأذنك.. حان الآن موعد (أم خماس)!.
د. سعيدة بنت خاطر الفارسي
saidakhater@hotmail.com
* شاعرة وناقدة عمانية من مواليد مدينة صُور
* حاصلة على درجة الدكتوراه في النقد العربي والبلاغة والأدب المقارن من كلية دار العلوم. جامعة القاهرة 2002م، عن موضوع "الاغتراب في شعر المرأة الخليجية"
* تقلدت العديد من المناصب منها:- رئيسة قسم اللغة العربية بدائرة المناهج / مديرة مكتب وزير التربية والتعليم / مديرة المدرسة النموذجية للبنات سنة1980م / مساعدة عميد شؤون الطلاب ومسئولة النشاط الثقافي بجامعة السلطان قابوس من سنة 86- 96 م / مسئولة النشاط الثقافي بكلية مسقط للعلوم والتكنولوجيا من 96 - 99م
* رئيسة تحرير مجلة العمانية
* مفوضة علاقات دولية بجمعية المرشدات العمانية
* عضوة في لجنة تقييم نصوص الأغاني والمسرحيات
* عضوة في لجنة تقييم الفنون الشعبية
* رئيسة أسرة الكاتبات العمانيات
* عضوة في رابطة الأدب الحديث بالقاهرة .
* عضوة في منظمة الكتاب الأسيويين والأفريقيين
* عضوة في رابطة الأدب الإسلامي
* عضوة في جماعة قراءة للإبداع والنقد التطبيقي بالقاهرة
* صدر لها في الشعر:
- مدٌّ في بحر الأعماق : ديوان شعر. 1986م
- أغنياتٌ للطفولة والخضرة "مجلد" : ديوان شعر للأطفال. 1991م
- إليها تحج الحروف : ديوان شعر. 2003م
- قطوف الشجرة الطيبة : شعر شعبي. 2004 م
- وحدك .. تبقى صلاة يقيني : ديوان شعر. 2005 م
- موشومة تحت الجلد : ديوان شعر. 2006 م
* صدر لها في النقد:
- "سوسنة المنافى" حمدة خميس وتحولات الاغتراب السياسي, قراءة في الشعر الخليجي المعاصر(1) : دراسة نقدية. القاهرة 2003م
- سعاد الصباح بين الاستلاب والاغتراب, قراءة في الشعر الخليجي المعاصر(2) : دراسة نقدية. القاهرة 2003م
- "انتحار الأوتاد" : دراسة في اغتراب سعدية مفرِّح
- قراءة في الشعر الخليجي المعاصر(3) : القاهرة 2004م
- "على شفا حفرة"، دراسة في الاغتراب الصوفي لدى زكية مال الله : قراءة في الشعر الخليجي المعاصر(4). القاهرة 2004م
- بالإضافة إلى عشرات البحوث والدراسات في مجال الدب والنقد.
* الجوائز والتكريم:
- وسام التكريم لقادة دول مجلس التعاون، في مجال الأدب. مسقط. 1989م
- ميدالية النشاط الثقافي النسائي من الأمانة العامة لدول مجلس التعاون. الرياض 1996م
- وسام المبدعات العربيات. منتدى المثقف العربي. القاهرة 2004م
- تكريم مهرجان الشعر العماني. مسقط. 2006م
* نشرت نتاجها الشعري ومقالاتها في الصحف والمجلات العمانية والعربية.
* لها مشاركات عديدة في الملتقيات الثقافية والمهرجانات الشعرية داخل السلطنة وخارجها.
- البريد الإلكتروني: saidakhater@hotmail.com