عوني كرومي.. وسيط الثقافات

2011-08-08

لست بحاجة الى شاهد قبر لكن
ان احتجتم شاهدا لقبري
فاني اود ان يكتب عليه :-
لقد طرح اقتراحات ، نحن قبلناها
مثل هذا النقش سيغدو
تكريما لنا جميعا . 

                  برشت في اخر ايامه ..

 

يعد عوني كرومي واحداً من اعمدة المسرح العراقي، بل احد اعمدة الحضارة العراقية المعاصرة، فقد اغنى التجربة المسرحية العراقية والعربية، بمحبة الروح قبل ان يغنيها بأخراج نصوصه الراقية الرصينة، عشق التاريخ، فتوغل في مجرياته، مبحرا فيه نحو الاعماق، لينهل من صفحاته المشرقة قلائد الياقوت، وكان الباحث ابدا في خفايا حكاياته الطلسمية واساطيره التي حفر سطورها النحات الآشوري قبل اكثر من ثلاثة الاف سنة على رقيم الطين ليودعها في خزائن مكتبة آشور بانيبال كي تبقى دليلا وشاهدا على حضارة ذلك العصر الذي نبت فيه الحرف شجرة وصار الكتاب شمسا.

كان العمل المسرحي بالنسبة لعوني كرومي فعل حياة وبقاء وتطور وسؤال دائم عن الكينونة وال//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8bde5abd-87c4-4738-9abb-2442fbdc8f01.jpeg وجود وعملية إبداع الذات إلى جانب كونه رحلة مغامرة في المستقبل بهدف الوصول إلى الحقيقة وإيجاد أجوبة لأسئلة العصر الراهن.
كان نزوعه نحو التجريب والتجديد جزءاً من تكوينه، حيث برز لديه وهو في مقتبل الشباب، حين أصدر بياناً عندما كان دون العشرين يدعو فيه الى التجديد في التعاطي مع المناهج والرؤى المسرحية السائدة. وقد أثار ذلك حفيظة رمز التجديد - عهدذاك - أستاذه ابراهيم جلال.

أصدر عنه الأستاذ الكبير د. علي جواد الطاهر كتاباً بعنوان (عوني كرومي والمسرح الشعبي) وكان قراءة نقدية عميقة ورصينة في أعماله (غاليلو وغاليليه ، كوريولان ، كشخة ونفخة ، الانسان الطيب ، ترنيمة الكرسي الهزاز ، بير وشناشيل ، رقصة الأقنعة)راصداً تجربته في الإخراج المسرحي ، وواصفاً اداءه بـ (الرُقي) في شهادة كبيرة هو أهل لها.


أربعون عاما من العمل والتفاني والكفاح قضاها الراحل الدكتور المخرج عوني كرومي في العمل المسرحي مخرجا وممثلا ومنظّرا وصاحب رؤى متجددة في الإخراج المسرحي والباحث دائما عن الجديد والمتجدد في إخراجه للأعمال المسرحية التي ترجمت حقاً إلتزامه الصادق بالبحث عن آليات حداثية في التجريب المسرحي راحلا عنا قبل أن يكمل حضور العرض الأول لمسرحية كان يخرجها لمسرح برلين، وبعد بدء العرض بأقل من نصف ساعة، نقل إلى المستشفى في برلين لإصابته بجلطة قلبية، ليفارق الحياة عن 61 عاماً قضاها في العمل المسرحي الذي وزعه بين بغداد وألمانيا ودول عربية شتى، تاركا أعمالا مسرحية وتجارب ومؤلفات أغنت المسرح العراقي والعربي ولتكون ملهما ومرجعا للمسرحيين الشباب.

  يقول عوني بتقييمه للمسرح العراقي :

الأعمال التي شاهدتها ربما تجعلني أقف منحنيا أمام مبدعيها بقدراتهم على تسليط الضوء على الواقع الذي يعيشونه من دمار وحرب وتأثيرات قاسية للحصار، وكنت منحازا أمام بعض التجارب التي سلطت الضوء على الانهيار وما أفرزته الحروب من تأثيرات أجتماعية على الإنسان من خلال الأسير الذي يعود الى وطنه، فلا يجد بيتا ولا زوجة ولا مستقبلا، رغم تضحياته فيبقى معذبا.. كما تثيرني موضوعة الانتظار والخلاص المجسدة من خلال النساء والشخصيات النسائية، فهذه المرأة التي تنتظر الحبيب والأخ والزوج ولا تجده ماثلا أمامها بقدرماهو موجود في مخيلتها أوعبر ملامسته ببقايا الجثث المنشورة، وتمارس أحتفالها اليومي ومعاناة عشقها في داخل الحلم الذي يقبل التأويل ويفتح نافذة للقراءة المجتهدة للعمل الفني، كما أن عروض المسرح العراقي تتطلب مشاهدا ذكيا لكي يسقط قراءته الذاتية بعد الأداء التجسيدي للشخصية الإنسانية، وجمال هذه العروض هو عظمتها، وفي الابتعاد عن الخطاب الايدولوجي المسيّس وطرحها للأزمة السياسية التي يجب أن تقرأ على أن أنتظار الغد مرهون بإرادة الإنسان.

أما على المستوى التقني فيحاول الممثل العراقي أن يقدم خطابه الملغّم عبر الشخصية التي يمثلها، وتميز الممثلون العراقيون بقراءة ذواتهم من خلال النصوص، وهذا الفن لا تستطيع أي رقابة في العالم ان تمنع دخوله إلى قلوب الناس لأنه يعتمد على الصدق الثقافي والمعايشة، وهم يمزجون بين خبرتهم الذاتية ومعانتهم وكأنهم سفر يتعرى لكي يقول الحقيقة المخفية والمخنوقة في أفواه البشرية عما يتردد من انهيار وتفشي ظاهرة السقوط والاستجداء في فخ شباك التذاكر والتساهل مع الذات في تقديم خطاب معرفي، وكأنه حالة من حالات التنفيس والهروب والوقوع في الوهم من خلال تجميل الحياة أو التهكم الذي يملك جوانب سلبية كثيرة في أعداد شخصية الإنسان، إلا أن مع هذا فكثرة الإنتاج وارتياد المسرح يستطيع أن يمنحنا صورة واضحة عن تشبث المواطن العراقي بالحياة، والعمل على أن لا ينهار أو يفقد العمل، ويرى في المشاهد العراقي أنه يقرأ حتى العروض التافهة والسطحية بعمق جراحه ولوعته، فلا خوف على مشاهد يمرض فما أسرع أن يشفي الجمهور والمجتمع من أمراضه وجراحه، وان سقوط الإعمال في التفاهة أو انعكاس آخر للواقع الذي امتلأ قيحا وسطحية. فالمسرح ليس بموضوعاته يعكس الحالة الحضارية التي وصل أليها المجتمع، وان هناك أكثر من ثقافة في داخل أي مجتمع من المجتمعات لهذا لا يستطيع أن يعمم اتجاها واحدا من الثقافة، وارى الأمل حتى في رماد جثث الموتى.

وعن المسرحي أو المشتغل بالمسرح يقول عوني كرومي :

عليه أن يقرا كثيرا ويكون على إطلاع كبير على تجارب من سبقه وأن يشاهد المزيد من الأعمال المسرحية وأن يختلط باكبر عدد من المختصين في الشأن المسرحي، بهذا نكون قد حققنا المعادلة الصحيحة في مسيرة المسرح وتطوره.

فنان استثنائي

عوني كرومي ذلك الراحل الذي فجعت برحيله خشبة المسرح العراقي ، وفجعت به النظرية الحداثوية المجددة للمسرح العراقي، هو ذلك الطود المسرحي الشامخ ، الذي تربع على قلوبنا كواحد من أعظم المخرجين المبدعين الذين أسسوا لحركة التجديد والحداثة في المسرح العراقي، وهدف الى خلق الابهار العرضي والتنظيري، لأنه فنان استثنائي خلاق، لا يؤمن أو يعتمد على المفاجأة، لان المسرح، لا يتكأ على المفاجأة او الصدفة المحضة للنجاح الآني الزائل، ولأن منهجيته وشرائطه العلمية المختبرية المتجددة، تعتمد بالكلية على عملية الخلق والإبداع، والإخصاب، فالمفاجآت التي لا تنمي إيقاع ديمومته التكوينية الإبداعية، واستقلاليته المتفردة فحسب، بل تسقطها في مرحلة ما، في أتون حضيض المفاجأة الكبرى ( الفشل ) والانزواء، لكن عملية البحث العلمي الجاد، والاستقصاء الاستقرائي المتنامي البحثي العلمي، والتقصي الفاعل في إيجاد صور وأشكال مُتخيلة جمالية، هي التي تُصعّد وتنمي مهام التفسير والتحليل والتأويل، في متن القدرات الاستنباطية داخل الخطاب المسرحي، لإذكاء الملكة الفنية التي تفرض نفسها بشكل حضاري لتسجل أسمها باستثنائية منتقاة، ضمن سجل الحركة المسرحية الدؤوبة والتجربة الحداثوية المرتكزة على قيمة النجاح الانتخابي النخبوي، لذات الفعل المسرحي والإنساني، لتُنشط من خلال تلك الرؤى الفنية الاستاتيكية المتجددة المولودة من رحم القيم المسرحية العالية، والمنتعشة في كبد إيقاع الحياة وديمومتها المعاشة اليوميـة، لتطوير الحاضرة العرضية الفكرية المسرحية الجمالية، لان المسرح جميل، بل ومجبول بالجمال.

 

المفتاح السحري

الناس وهمومهم.. كانت هي كلمات السر والمفتاح السحري الذي دخل منه عوني كرومي الى عالم المسرح .. فمنذ عمله الاول (جان دارك) وحتى آخر عمل له،  كان فيها  يؤمن بان الجمهور لايمكن ان يصبح متفرجا من مواقع المواجهة للعمل المسرحي بل ان الجمهور جزء من اللعبة المسرحية التي يعيشها الممثلون والمتفرجون معا .. فالعمل المسرحي لايبرر وجوده دون ان يصبح الجمهور نقطته المركزية ولذلك خرج من مسرح اللعبة الى مسرح المختبر ليدوزن اللعبة المسرحية على مواصفات اماكن غير تقليدية .. شقة في بناية - بيت عتيق في السنك- كنيسة تنيرها الشموع- باحة في كلية الفنون - رصيف منسي في احد شوارع بغداد .. اماكن استوحى منها كرومي منطق رؤاه وبنى من خلالها معماره المسرحي فالفضاء المسرحي كان العصب الاساسي لمعظم اعماله المسرحية والهيكل العظمي الذي يعطي لعروضه الفنية قيمتها ومعناها .. وهو يؤمن بان العمل المسرحي لايقرأ الا من خلال مكانه لذلك انصب اهتمامه على توظيف المساحات توظيفا فنيا فالمكان يوضح الشخصية ويعمق حضورها وهو يقول للناقد ياسين النصير (المكان عندي مادة واقعية.. لغة تقربني من الناس .. انا لااميل الى تغريب المشاهد ولا الى الغاء حواسه وخبرته بل على العكس اجعل منه قريبا من خلال مشاهد سبق ان عاشها واحبها وتعرف عليها) .. وهو مثل معلمه برشت يدين الخشبة المسرحية القائمة على تراتيبية المقاعد لانه يريد من الجمهور ان يصبح جزءاً من الصورة العامة او جزءا من الاداء او الحكاية .
ويؤمن عوني كرومي بان مسرح معلمه برشت لايمكن عرضه بصدق ودقة الا من خلال روح الجماعة الموحدة الفاهمة لهذا فهو يولي اهمية قصوى للممثل -المنتج- ويجد راحته في العمل مع الممثلين الشباب اي مع الممثل الذي يكتسب مهاراته من خلال دراسته وسعيه الى الاكتشاف وصولا الى تقديم صورة للتجسيد الدرامي واشباع الغاية الفنية من وجود الممثل في العمل المسرحي ولهذا فالممثل الذي يعمل مع عوني كرومي لابد من ان يمتلك ثقافة تجمع بين الفهم الخاص للشخصية والفهم العام لقضايا المجتمع .

شمعة لا تنطفئ

لااخال ان شمعة هذا الفنان المبدع قد انطفأت لحظة موته ، ولا اعتقد ان رقدته الابدية قد غيبته عن عرش المسرح وذلك الجمهور الذي كان دائم الحضور ودائم الاعجاب في كل ماقدمه الفنان الراحل من اعمال ابداعية تم اختيار نصوصها بعناية فائقة الدقة، حيث قوبلت بترحاب المتلقي وارتياح الناقد في كل بلد من البلدان التي زارها او اقام فيها مثل سوريا والاردن ولبنان ومصر والكويت والجزائر وتونس ، وهو يبشر في كل عمل جديد بميلاد مسرح جاد يتبنى هموم الانسان المعاصر ، ويعبر عن فكره، ويتطابق مع طموحاته الايديولوجية .

 

//api.maakom.link/uploads/maakom/originals/8bde5abd-87c4-4738-9abb-2442fbdc8f01.jpeg لد المبدع الكبير الراحل ( عوني كرومي ) عام 1945 في مدينة الموصل ورحل عن عالمه ( خشبة المسرح ) عام 2006 ، بعدما نقش اسمه الجليل بأحرفٍ نيّرة، طرزتها فوق سجادة المسرح العراقي الفخمة، أنامل ذات الخشبة التي اشتق من عبقها واريجها ملامحه العبقرية الفطنة والتي كانت حاضنة مخصبة بالابداعي الدائم، وتنفس شذاها على مدى اربعة عقود ونيف قضى جلها بالمتابعة، والاستقراء، والتحليل، والتأمل في مجاهل الجمال اللا متناهي .
تخرج الراحل من معهد الفنون الجملية / بغداد عام 1965 ، نال شهادة البكلوريوس من أكاديمية الفنون الجملية / بغداد عام 1969 ، حصل على الماجستير / علوم مسرحية / جامعة ( همبولدت ) / برلين / المانيا عام 1972 ، نال شهادة الدكتوراه من معهد العلوم المسرحية جامعة ( همبولدت ) / برلين / المانيا

عام 1967 ، شارك في العديد من الحلقات الدراسية العربية والعالمية بين الاعوام 2002 - 1972 .
دَرّسَ في العديد من الجامعات والكليات والمعاهد الفنية المتخصصة العراقية والعربية والألمانية

 بين الاعوام 1977- 2002 ، تخرج من بين خلجات ملامحه العبقرية ، العديد من الاسماء الكبيرة التي أصبحت قامات عالية في المسرح العراقي والعربي والعالمي .

أخرج الراحل الكبير ( عوني كرومي ) أكثر من سبعين عملا مسرحيا ، يأتي على رأسها ، كاليكولا ، وغاليلو غاليليه ، وكريولان ، انتيكونا ، وترنيمة الكرسي الهزاز ، التي حصدت العديد من الجوائز ، ومأساة تموز ، والإنسان الطيب ، صراخ الصمت الأخرس ، الغائب ، كشخة ونفخة ، وفطور الساعة الثامنة ، في منطقة الخطر ، القاتل نعم القاتل لا ، وتداخلات الفرح والحزن ، وفوق رصيف الغضب ، وحكاية لاطفالنا الأعزاء ، بير وشناشيل ، المحفظة ، المسيح يصلب من جديد ، والصمت والذئاب ، عند الصمت ، وفي المحطة ، الشريط الاخير ، المساء الاخير ، الطائر الازرق ، وفاطمة ، والسيد والعبد .


نال الراحل الكبير ( عوني كرومي ) العديد من الجوائز العالمية والعربية والعراقية ، منها في مهرجان بغداد المسرحي ، مهرجان القاهرة المسرحي ، مهرجان قرطاج المسرحي ، مهرجان برلين المسرحي ، حصل على لقب ( وسيط الثقافات ) من مركز ( بريشت ) في برلين ، توفي في مدينة برلين بالمانيا ، في فجيعة صباح يوم 28 / مايو / 2006 .

صدرت له عدة مؤلفات بالدراسات المسرحية باللغة الألمانية عن المسرح العراقي والعربي الأول (إتجاهات ووضعية المسرح العراقي والعربي ) والثاني ( وضعية المسرح العربي الحديث )

وله العديد من الدراسات بالعربية والألمانية مثل/ وظيفة المخرج في المسرح/ اطروحات في المسرح العراقي القديم /كروتوفسكي والمسرح الفقير/ الاغتراب في المسرح العربي/الحركة لغة المسرح/ طرق تدريس التمثيل/ المسرح الألماني المعاصر / أصول تدريس التمثيل/فن التمثيل/المسرح المدرسي/وآخرها دراسات عن المسرح والجمهور والضحك منشورة في إصدار واحد بعنوان ( الخطاب المسرحي ) عام 2004م من إصدار دائرة الشارقة والإعلام وهو مرجع غني بتعريف المسرح وخصائصه والعرض المسرحي والجمهور والضحك.

 

 

 


 

 

 

 



 

 

 

 

عالية كريم

رئيسة تحرير "معكم"

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved