يا طَير ... يا طايِر !

2016-12-31
كلَّ صباحٍ، أهبِطُ السُّلَّمَ، وأفتحُ بابَ المنزلِ، ثم أخرجُ لأتفقّدَ " بيتَ الطيرِ "،  في حديقتي، أُزَوِّدُه حَبّاً وكُرَيّاتِ شحمٍ، وأذودُ عنه السناجبَ الشرِهة .
هاهوذا دأبي . أفتتحُ يومي في هذه الدنيا، مع الطير .
أكان امرؤ القيس يفعلُ الأمرَ ذاتَه ؟
وقد أغتدي والطيرُ في وُكُناتها ...
وأنا أهبِطُ السلّمَ، أحَيّي بتحية الصباح، الرسّامَ بروغيل الأكبر 1525-1569، عبرَ لوحته الشهيرة
" سقوط إيكاروس " التي أعَلِّقُ نسخةً منها في بيت السُّلّمِ .
الطيرُ حُرٌّ .
وفكرةُ الطيَران ارتبطتْ منذ بدايتها الأسطوريّة بفكرة الحرّيّة .
يقولُ الأغارقةُ :
كان في كْرِيت ( جزيرة كريت ) ملكٌ اسمُه مينوس، وكان في تلك الجزيرة وحشٌ مدَلّلٌ عند الملك يدعى المينوتور . هذا المينوتور لا يلذُّ له طعامٌ إلاّ إذا كان من لحم بشرٍ سَويٍّ !
ضجّ الناسُ، ودعَوا الملكَ أن يقتلَ وحشَه، لكن الملكَ رفضَ ذلك، وبدلاً من القتل كلّفَ بَنّاءً شهيراً هو ديدالوس، ببناءِ المتاهة ( اللابرينث ) التي يظلُّ المينوتور يدور فيها إلى ما لا نهاية .
بعد أن أنهى ديدالوس العملَ، قرّرَ الملكُ أن يسجنَ البَنّاءَ، وابنَه إيكاروس، في المتاهةِ، كي لا ينكشفَ السِّرُّ . كان يريدُ أن يدفنَهما حَيّينِ، مهَدّدَينِ بالموتِ بين أنياب المينوتور .
هكذا حدث مع البنّاء سِنِمّار الذي شيّدَ قصر النعمان بنِ المنذر . وإن اختلَفَ الأمرُ .
النعمان بن المنذر قتَلَ سِنِمّار، كي لا يعرفَ أحدٌ  مسالكَ القصرِ، من مداخلَ ومَخارجَ .
من هنا جاء المثَلُ : جزاءُ سِنِمّار .
*
نعود إلى الجزيرة الإغريقيّةِ :
بالرغمِ من تشديد الملكِ مينوس، الحراسةَ، على اللابرينث، استطاعَ ديدالوس مع ابنه إيكاروس، الإفلاتَ من السجنِ، واختبأ الإثنان في مُلتَفٍّ من القصباءِ والدوحِ، على شاطيءٍ ناءٍ .
كان بمقدورِهما البقاءُ طويلاً في هذا المنتأى .
لكنّ ديدالوس كان يريدُ الإفلاتَ من طُغيان مينوس، والإنطلاقَ حُرّاً .
صعّدَ نظره إلى السماء .
كانت النوارسُ تطيرُ حُرّةً، وهي تتلاعبُ مع الريح .
قال ديدالوس لابنه : سنطير كالطير !
*
هكذا صنعا جناحَينِ لكلٍّ منهما .
قال ديدالوس لابنه إيكاروس : لا تُصَعِّدْ كثيراً فتقترب من الشمس . الشمع سيذوب ...
*
طار الإثنان .
كان إيكاروس  مبتهجاً . البحرُ صافٍ . والشمس ساطعةٌ . والفؤادُ منشرحٌ .
ارتفعَ إيكاروس وارتفعَ .
كانت فُتُوّتُه تثملُ بالحرّيّةِ .
بغتةً رأى ريشةً تسقطُ ، ثم أخرى ...
لقد ذاب الشمعُ !
ديدالوس كان يرى ابنه يسقط ، لكنه عاجزٌ عن فِعلِ شيء .
لحظة سقوط إيكاروس، خلّدَها بروغيل الأكبر .
*
قد كنتُ قلتُ إن فكرةَ الطيَران مرتبطةٌ منذ بدايتِها بفكرةِ الحريّةِ .
وفي بلاد الإغريقِ تطبيقٌ فَذٌّ للأمر :
أكاديميةُ الطيَران اليونانيّة تحمل اسمَ :
إيكاروس !

لندن 14.07.2016





 

سعدي يوسف

 شاعر عراقي وكاتب ومُترجم، وُلد في ابي الخصيب، بالبصرة عام 1934. اكمل دراسته الثانوية في البصرة. ليسانس شرف في آداب العربية. عمل في التدريس والصحافة الثقافية . غادر العراق في السبعينيات وحاليا يقيم في لندن ونال جوائز في الشعر: جائزة سلطان بن علي العويس، والتي سحبت منه لاحقا، والجائزة الإيطالية العالمية، وجائزة كافافي من الجمعية الهلّينية. في العام 2005 نال جائزة فيرونيا الإيطالية لأفضل مؤلفٍ أجنبيّ. في العام 2008 حصل على جائزة المتروبولس في مونتريال في كندا . وعلى جائزة الأركانة المغربية لاحقاً

عمل كعضو هيئة تحرير "الثقافة الجديدة".

عضو الهيئة الاستشارية لمجلة نادي القلم الدولي PEN International Magazine

عضو هيئة تحرير مساهم في مجلة بانيبال للأدب العربي الحديث .

مقيم في المملكة المتحدة منذ 1999.

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved