سعدي يوسف
"ها !
ها !
ها !
ها !
الزجاج المضاعف في منزلي
صار كل النوافذ...
جاؤوا خفافا بسيارة البلديةِ
ثمّ اعتلوا مثل جنّ سلالمهم
هكذا استبدلوا بالزجاج السيطِ القديم،
الزجاج المضاعف...
قالوا سلاما
وعادوا بسيارة البلديةِ
ها أنا الآن في منزلي ذي الزجاج المضاعفِ
منزل الغابة المطمئنةِ
في قريةٍ بالضواحي...
*
يهطل المطر الآنَ
أمضي إلى النافذةْ...
غيرَ أني لا أسمعُ المطرَ،
المطر الآن خلف الزجاج المضاعفِ
أبصرُهُ:
القطرات الكبيرةَ
والرقصة الحلم في الريح
لكنني خلف هذا الزجاج المضاعفِ
لا أسمع الكونَ
كيف إذًا، سوف أسمع نفسي؟
*
العصافير تأوي إليّ
العصافير منزلها منزلي
وعلى شفتي منطق الطير
لكنني الآن عبر الزجاج المضاعفِ
لا أبصر الطيرَ
والطير ماعدا يسمعني...
.................
.................
.................
قد تقول: البصر
كل شيء بدا غائما
عبرَ هذا الزجاج المضاعف
*
لم تبق إلا البصيرةْ!"
تنتظم قصيدة سعدي يوسف الجديدة هذه في سلسلة ما أسميته (قصائد العزلة) التي يبدو فيها الشاعر في هذه المرحلة المتأخرة من حياته محاصرا بوجود ينسحب ويتراجع مثل ظل أمام عينيه دون أن يكون قادرا على إيقافه أو ضبط حركته.
والقصيدة التي كانت محكومة في جانب منها عند الشاعر بخطاب اللاوعي والوعي ممتزجين، تحاول أن تتكلم هنا من خلال الوعي الذي يطرح الأسئلة ويفلسف الأشياء باتجاه صورة هذا الحاضر الذي يتهرب منه، ولا يشير إلا لما هو موجود بكل طرافته الملغزة أو صلابته الصماء أمام عينيه.
وهذه القصيدة ذات الطبيعة السردية تبدأ بضحكة تتكرر مرات أربع "ها..ها..ها..ها.." لتشير منذ البدء إلى وجود خلل أو مفارقة تدعو إلى السخرية من هذه النوافذ التي استبدل زجاجُها القديم البسط بزجاج مضاعف double glazing من أجل توفير مزيد من الحماية والأمان والدفء للشاعر ببيته الريفي في تلك الغابة المطمئنة، ولكنها من ناحية أخرى تحول بين الشاعر وبين الرؤية الواضحة لما يحدث في الخارج من خلال تلك النوافذ المعماة. الأمر الذي لا يعرفه أو يفكر به عمال البلدية الإنكليز الذين يبدون، مثل جن، غير معنيين بغير إتقان عملهم وإتمامه في منزل الشاعر، الذي يبدوبالنسبة إليهم كما لو كان غير معني بما يحدث. فالمنزل هو منزل البلدية والعمال هم عمالها، ولا شأن لهم بكون ساكنه شاعرًا أو غير شاعر.
والنوافذ تتخذ هنا، كما هو واضح، شكلا رمزيا له علاقة ب(التنافذ) بين داخل مغلق، وآخر مفتوح على الخارج، ويدفع إلى التفكير بالعلاقة المفترضة بين الكائن والمحيط الخارجي الذي تشبع الشاعر بروحه ورائحته وكل تفاصيله، ثم جاءت هذه النوافذ (المضاعفة) لتمنع التواصل معه، أو تدخله في ظروف وشروط جديدة مختلفة.
ولئن كان السياب يبحث في شباكه عن (وفيقة) التي عاشت في حلمه، وريلكة الألماني يبحث في قصيدته (النوافذ) المكتوبة بالفرنسية عن امرأة كانت تطل من تلك النافذة التي هي " مهندستنا والشكل البسيط جدا الذي يحيط بحياتنا الهائلة"، كما يقول، فإن سعدي يوسف يبحث في نوافذه هذه عن صورة الوجود ومظاهر الطبيعة المحتدمة خارج بيته، وليس عن امرأة محددة فيه. نعم هو يبحث عن مجرد العلاقة مع الطبيعة... الطير والشجر ما دامت غير متوفرة آنئذ مع البشر.
والتطور الأول في هذه السردية الشعرية يتمثّل بهذه المواجهة القاسية بين الداخل والخارج بعد أن فرغ أولئك العمال من عملهم في وضع هذا الزجاج المضاعف :
"يهطل المطر الآنَ
أمضي إلى النافذةْ...
غيرَ أني لا أسمع المطرَ،
المطر الآن خلف الزجاج المضاعفِ
أبصرُهُ:
القطرات الكبيرةَ
والرقصة الحلم في الريح
لكنني خلف هذا الزجاج المضاعفِ
لا أسمع الكونَ
كيف إذًا، سوف أسمع نفسي؟ء"
الشاعر ما عاد (يسمع الكون) حتى إذا كان قادرا أن يبصر من وراء هذا الزجاج المضاعف بعض المظاهر المعتادة في الطبيعة الإنكليزية خارج بيته...قطرات المطر الكبيرة، والريح العاصفة التي تتحول حركتها أمام عينيه إلى ما يشبه رقصة في الحلم، وليس إلى دويّ وحركة قد تكون مزعجة ومؤرّقة.
غير أن السؤال المؤرق، " كيف أسمع نفسي؟"
الذي يأتي حائرا بعد الصعوبة الخاصة بعدم (سماع الكون) بسبب من هذه النوافذ التي تحولت إلى عكس وظيفتها في النفاذ، هو الذي يضعنا أمام مشكلة الرغبة الدائمة لذات الشاعر بالتمدد والتوسع من فضائها المغلق داخل دفء البيت لكي تحتوي كل ما في هذا الكون من عناصر خارجَه، اعتادت هذه الذات الارتباط بها والتفاعل معها وسماع نبض الكون من خلالها، وهي تواجه الآن خطر عدم رؤيتها والتواصل معها.
وهو موقف يشبه، من بعض الوجوه، ما كان الشاعر الأمريكي والت ويتمان يتحدث عنه في قصيدته المعروفة (أغنية نفسي Song of Myself) التي مزج فيها بين هذه النفس وبين مواطنيه وتراب بلاده، عشبها الأخضر، وما ينطوي عليه عالمه المنفتح على خبرات وأشياء متنوعة تمثل العناصر التي تنطوي عليها ذاته المتفتحة على حياته الأمريكية الجديدة.
وسعدي يوسف يقول إن هذا الشاعر قام بمهمة غاية في الدقة حين وضعنا ببساطة أمام حقيقة بسيطة ومذهلة في آن هي أننا جميعاً أبناء الطبيعة باعتباره شاعراً أرضياً بل لا تملك قصيدته أحياناً غير أسماء الأماكن والمدن وظواهر الطبيعة وحتى اهتمامه بالأجرام السماوية ليس غير تأكيد لقوانينه الأرضية، إن ورقة العشب ليست أقل حركة من النجوم،
كما يتوضح في هذا المقطع الأول من قصيدة ويتمان هذه على سبيل المثال :
"اني احتفي بنفسي ، و أغني نفسي
وما سآخذ به ستأخذون به
وكل ذرّة فيّ ، هي ذرة فيكم
إني أطوّف ، وأدعو نفسي
اني اتكئ وأطوّف ، مطمئناً
أرقب ورقة جديدة للعشب الصيفي
وكل ذرة في دمي ، هي من هذا التراب ، وهذا الهواء"
وهكذا، فإن شاعرنا الذي يرى في هذا الشاعر الأمريكي لدى ترجمته له في السبعينات من القرن الماضي "شاعر المحسوس والواقع المعيش والمفردة السائرة" لا يبدو أنه يختلف عنه في العلاقة مع البشر والطبيعة بطيورها وعصافيرها التي جعلت من منزل الشاعر منزلا لها:
"العصافير تأوي إليّ
العصافير منزلها منزلي
وعلى شفتي منطق الطير
لكنني الآن عبر الزجاج المضاعفِ
لا أبصر الطير
والطير ما عاد يسمعني"
والطير هنا ومنطقه الذي يبقى على شفة الشاعر، ليس طير فريد الدين العطار ولا منطقه الغائب في حضرة الذات الإلهية والوجود المؤجل في حضوره حتى لحظة الكشف الصوفي، بل هو طير فقط، نعم هو عصفور يألف الشاعر ويشاركه السكن في منزله. وهو يشبه أن يكون ثغرة بيضاء في نص ممتع، هو نص الوجود المتدفق أمام عين الشاعر المضببة، حتى إذا لم يكن هذا النص مرئيًا ومقروءا بصورة كاملة.
و(البصيرة) التي تبقى وحدها الأداةَ والوسيلة لقراءة نص هذا الوجود، بدلا من (البصر) بهذه الطريقة نتيجة لذلك، هي الوعي الذي قد يعمل على إيقاف الرؤية ويتهدد تدفقَ القصيدة، ويستبدل البداهة الشعرية بالإدراك والعقلنة الفلسفية للكلمات والأشياء التي لم يكن تاريخ الأخضر بن يوسف الشعري غير لعب منظم ورائق، ورقص حر بالأغلال على العلاقة الخطرة القائمة بين خيوطها وحبالها المرئية أو تلك أو تلك وغير المرئية.