خطوط وظلال/مختارات من قصائد سعدي يوسف

2020-06-15

المقدمة

 هذه المختارات الشعرية التي تتخذ من (أسفل الوردة) و(الحدائق الشعرية) عنوانا يستطيع القارئ أن يطل منه على جانب من تجربة أو تجارب سعدي يوسف الشعرية الفذة، تستحق الإهتمام لأكثر من سبب .

فهي تقدم قصائد الشاعر المختارة في هذا الكتاب مع رسوم بالحبر الأسود مصنوعة من خطوط وظلال تحاول التعبير عن مضمون القصيدة وروحها الموزع بين كلمات وصور لفظية وفراغات ضمن الاهتمام المعلن بالفعل الجمالي باعتباره (فخّا بصريًا ولذّة كامنة في صفات الكتاب الذي سيوقع القارئ في لذّة الصورة وتمثّلاتها المعرفية المتحركة)، كما ورد في إعلانات دار النشر الجديدة هذه التي يشرف عليها الصديق الفنان والشاعر محمد العامري.

والمختارات تقدم، بهذه الصورة، وجبة غنية من قصائد الشاعر التي لايستطيع القارئ العادي الإحاطة بها في مصادرها الأصلية لتنوعها وغناها وكثرتها. فقد بلغت أعمال الشاعر الكاملة سبعة مجلدات كبيرة، إضافة إلى مجلد ثامن يجري إعداده للطبع الآن. وهو أمر يجعل من الصعب على مثل هذا القارئ العودة إلى كل تلك المجلدات الطويلة ليتزود منها، أو يتمتع بقراءة مستوعبة لواحد من الشعراء العرب والعالميين الكبار الذين بدأوا مع شعراء عرب آخرين شوطَ الحداثة الشعرية العربية قبل أكثر من ثلاثة أرباع القرن، وما زال حتى الآن حيا يرزق، قادرا على أن يضيف كل يوم جديدا إلى منجزه الإبداعي المتنوع والضخم.

وقد حاولت وأنا أقدّم للمختار من هذه القصائد أن أتعرف على المعيار أو المعايير التي تمّ بموجبها اختيار هذه القصائد التسع والعشرين دون سواها لإصدارها في هذا الكتاب، فلم أتوصل إلى شيء يزيد على أنها في مجموعها من مستجاد شعر سعدي، وأنها ليست من تجاربه الشعرية الأولى. فهي تمثل في عمومها تجربة أو تجارب مكتملة ناضجة في لغتها ورؤيتها للعالم الذي يعيش فيه الشاعر، ويعاني منه ويحاول في كل قصيدة وتجربة جديدة أن يرى صورته كما تنعكس في مرآة كلماته، ويتلمس ملامح وجهه، ويواجه اللغز الكامن في قلب الوجود بأشيائه وزواياه المستديرة والضيقة وفضاءاته المختلفة.

 ودار خطوط وظلال التي تطبع هذا الكتاب تقول إنها راعت في اختيار هذه القصائد الجانب التاريخي بالتشاور مع الشاعر سعدي يوسف نفسه، مع أنها ليست ملزمة ببيان ذلك، ما دامت القصائد المختارة هي التي تقدم نفسها وتكشف عن طبيعتها بصرف النظر عن أسباب الاختيار وظروفه. ونحن نتذكر كيف أن الناقد أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقي قد حاول  في شرحه المعروف لديوان الحماسة أن يجيب عن السبب الذي دفع أبا تمام لاختيار قصائد ومقاطعات لشعراء أغلبهم غير معروف وتخالف طرائقهم في النظم منهجه وأسلوبه المتبع في كتابة الشعر، فلم يجد شيئا يفسر به ذلك سوى القول :

 

"إن ما يختاره الناقد الحاذق قد يتفق فيه ما لو سئل عن سبب اختياره إياه، وعن الدلالة عليه، لم يمكنه الجواب إلا  أن يقول: هكذا قضيّة طبعي، أو ارجع إلى غيري ممن له الدربةُ والعلم بمثله، فإنه يحكم بمثل حكمي، وليس كذلك ما يسترذله النقد أو ينفيه الاختيار، لأنه لا شيء من ذلك إلا ويمكن التنبيهُ على الخلل فيه أو يمكن البرهان على رداءته" ( انظر شرح حماسة أبي تمام، 24 ص )

 

    وربما كانت ميزة هذه المختارات هي أنها تحاول، كما قلت، أن تضع الصورة المخططة بالحبر الأسود  في مقابل الكلمة المكتوبة في كل قصيدة من القصائد المختارة لتُري القارئ المهتم بأحد الفنيين (الشعر والرسم) أو بكليهما ما يمكن أن ينتج من تفاعل في إطار (النظر) إلى هذه اللوحة الجديدة المصنوعة من كلمات وخطوط وألوان.          

وفي نظرة الشاعر المباشرة أو (الجانبية) التي تحمل إحدى القصائد المختارة هنا عنوانها، يجري الحوار بين الصورة والواقع، أو بين الأشياء المحسوسة وانعكاسها كما تبدو في مرآة القصيدة على نحو ليس بعيدا عن الفينومينولوجيا التي هي مدرسة فلسفية تعتمد على رصد الخبرة الحدسية للظواهر، لتجعل منها نقطة انطلاق وبداية، وصولا لتحليل هذه الظواهر وتحديد أساس معرفتنا بها. وكما أن الفينومونولوجيا لا تدعي، على المستوى الفلسفي، التوصل لحقيقة مطلقة مجردة سواء في الميتافيزيقا أم في العلم، بل تراهن على فهم نمط حضور الإنسان ووجوده في العالم، فإن القصيدة هنا لا تفعل ذلك ولا تقوله أيضا. ولكنها لا تكتفي بتلك الخبرة الحسية المباشرة، بل تضيف إليها من عندها ما يقرّب العلاقة بين الكلمات والأشياء ويجعلها مرئية ومسموعة للقارئ، وأيضا هي تلجأ إلى ما يدخل الخلل والاضطراب على انتظام الزمن في الصورة، لأنها تستدعي أزمنة وأمكنة أخرى إلى بنية زمنها ومكانها الحاضرين، لتفسح لهما حيّزا وثنية في قلب تلك الصورة. والشاعر الذي يقف وجها لوجه أمام الاضطراب والفراغ في حياته وتنقلاته عبر بحار العالم وسمواته منذ أن فارق وطنه العراق قبل أكثر من نصف قرن، يحاول استخدام كل أسلحته ويسيطر على انفعالاته ويبتعد عن الصورة الرومانسية التي لا تستدعي الماضي لتعيش فيه، بل لتراه أو تنظر إلى أجزاء وشظايا معيّنة منه في حاضرها الراهن. وهذه (النظرة الجانبية) التي ترسمها هذه القصيدة مثلا:

 

نظرة جانبية

"حين تنظرُ عبرَ الزجاجِ المواربِ نظرتَكَ الجانبيةَ

تبصر أن الغيومَ ارتدتْ ورقاً من غصونٍ زجاجيّــةٍ …

هل تمادى الرذاذُ على مَسكن النملِ؟

هل هجستْ سـلّـةُ الزهرِ سنجابَـها يترجّـحُ؟

هل كنتُ أهذي بأسماءِ مَن رحلتْ أمسِ

تاركةً مخدعي بارداً يتنفّسُ؟

كان القطارْ

مسرعاً بين قُصوى محطّــاتهِ والمطار …

انتبهتُ إلى أنني لم أكن في دمشقَ؛

ولا أنا في القاهرةْ ’

وانتبهتُ إلى أن أمطارَ آبٍ حقيقيّــةٌ

مثلَ ما أنني جالسٌ لِصقَ نافذةٍ …

أسمعُ الآنَ صوتَ الرذاذِ الذي صار في لحظةٍ مطراً

أسمعُ الطائراتِ …

الصواريخُ تنقضُّ

إني أُقِــيمُ الصّــلاة".

 

 تطلعنا على أشياء كثيرة من حياة الشاعر في لحظته تلك حتى إذا كانت جانبية "عبر الزجاج الموارب" . فهي لا ترينا فقط تلك الغيوم التي "ارتدت ورقا من غصون زجاجية" واختلطت بها، ولا ذلك الرذاذ الذي قد يكون طال مسكن النمل إلى جانبه، وصورة سلة الزهر المتأرجحة مع سنجابها، وإنما هو يتذكر أو يرى من زاويته تلك، السرديةَ الخاصة بصديقته التي رحلت وتركت "مخدعه باردا يتنفس"، ولا يتذكر منها، في هذيانه أو تداعياته الحالية، غير صورة القطار المسرع بين "قصوى محطاته والمطار". فقد كان الشاعر في كل هذه الاستذكارات غير المؤكدة التي تبعث عليها تلك النظرة الجانبية لصق الزجاج، مخدرا أو شبه نائم. وهو يصحو على نفسه الآن، ويعرف أنه ليس في مكانه المألوف في القاهرة أو دمشق.

 ربما كان مطر آب هو العلامة المنبهة للشاعر إلى أنه موجود في مكان آخر، في أرض غريبة، حيث يتحول ذلك الرذاذ الناعم إلى مطر يستطيع الشاعر أن يسمع مع صوت قطراته المتساقطة شيئا آخر هو  صوت الطائرات البعيد والصواريخ التي تتساقط هناك على وطنه بدلا من مطر آب، مشيرا على هذا النحو المباغت وغير المتوقع إلى تلك الانشغالات الأخرى التي تلاحقه وتطفف عليه التمتع بحاضر تلك اللحظة الزمنية المهتزّة حتى آخر قطرة من كأسه التي يمتزج رحيقه بالفراغ والوحشة.     

وهكذا نرى كيف أن هذه (النظرة الجانبية) الراصدة في معتزل الشاعر البعيد لبعض مظاهر الحياة والطبيعة  حوله تتحول إلى نظرة كليّة تجمع حاضر اللحظة ونقطة البدء فيها لتمدّها نحو تفاصيل أخرى يختزنها الوعي واللاوعي ليضع عناصرها في قلب اللوحة التي ترسمها القصيدة، ولا تستطيع الصورة المؤلفة من خطوط وظلال أن ترسمها وحدها بنفس الطريقة .

 

   وفي (مريم تأتي) قصيدة الشاعر الأخرى الطويلة التي تبتدئ بها هذه المختارات، نلحظ مجددا هذه الخلطة السحرية التي تمزج بين الواقع والرمز، الواقعة السردية المتصلة بمريم المرأة الفلسطينية المقاتلة، والصديقة التي ينتظرها الشاعر في شقته البيروتية البيضاء أمام البحر، ومريم الأخرى التي يحيل إليها الاسم في التاريخ والمثيلوجيا؛ فيما تلك "المدينة المائية" تكفي لتذكير الشاعر ببيئته المائية البصرية الأولى التي يلمح خللها وجه جده بعيونه الزرقاء وكوفيته الحمراء. وهي، كما العادة، جملة أو صورة معترضة تأتي من عالم الطفولة وذكرياتها البعيدة نحو هذه اللوحة المائية المتشابكة أيام الحرب الأهلية اللبنانية التي وجد الشاعر نفسه عالقا فيها بين قوى اليسار العربي المساندة للمقاومة الفلسطينية، والقوى الداخلية والخارجية المعادية.

وأولئك الجنود الرومان الذين انتظموا في (كردوس) ليحاصروا مريم وابنها في الماضي، هم أنفسهم الذين يمنعون مريم الفلسطينية في الحاضر من المجيء من تلك الطرق البعيدة.

 

" وللحظةٍ غمرتْكَ بالقبلاتِ

ثم نأت متوجةً بخوصٍ أبيضٍ.

في أي نهرٍ سوف تنغمس الأناملُ؟

أي ماءٍ سوف يبتلّ القميصُ بهِ؟

وأيةُ نخلةٍ ستكون مُتّكأً؟

وهل يَسَّاقطُ الرُّطَبُ الجَنِيّ؟

أكان جذعُ النخلةِ المهتزُّ أقصى ما تحاول مريمُ؟

الأشجارُ موسيقى؟

وهذي الشقة البيضاءُ في بيروت ما زالت أمام البحرِ

تخفق في البعيد مدينة مائية أخرى

وألمحُ وجه جَدّي: زرقةَ العينين، والكوفية الحمراءَ

ألمحُ في الحواجز وجهَ مريمَ؟

في المحاور خطوةَ الملكِ المتوّجِ بالقذيفةِ

يدخل الرومانُ منتظمين كردوساً؟

وقوميون يقتتلون في الدكانِ.

مريمُ في مدينتها؟

وأنت تراقب الطرقَ البعيدة: هل تجيءُ اليومَ؟

كانت عند مزبلة الرصيفِ

وأوقدتْ نيرانَها؟

ومضتْ متوجةً بأدخنةٍ؟

تباركت المدينةْ.

لهفي عليكَ وأنتَ مشتعلُ

في الليلِ خلف الساترِ الرمل

هل كان ينبض دونك الأملُ

أم كان يخفق منتأى الخيلِ؟

كلما جئتُ بيتاً تذكرتُ بيتا

كلما كنتُ حيّاً تناسيتُ ميْتا"     

                   

وكل ذلك يدعونا هنا إلى أن نضع أمام قارئ هذه المختارات شيئا من الملامح العامة التي تتصل بفن سعدي يوسف الشعري وأسلوبه في كتابة القصيدة.

  وفي قراءاتي وحواراتي الطويلة مع الشاعر أثناء وجوده قريبا مني في تورونتو الكندية، وخلال رحلة طويلة قمنا بها أنا وإياه بالسيارة إلى العاصمة الكندية أوتوا، تخللتها أحاديث أدبية وشعرية متنوعة في السيارة أو في بيت أخي رحمن في العاصمة الكندية، أُتيحَ لي التقاط بعض الملاحظات الصغيرة التي من شأنها أن تلقي الضوء على تجربة سعدي يوسف الشعرية، ولغته، وأسلوبه المتفرد في الكتابة النثرية الذي يقوم على التقشّف وهندسة العبارة ومراعاة إيقاعها، والعناية بالفواصل اللفظية الدقيقة.

ومن بين ما ذكره سعدي لي في هذه الحوارات أنه كان مرة في زيارة لبيت صديقه الشاعر العراقي حسين مردان، حين أخذ حسين بيده  فجأة وجعلها تتلمس ورقة شجرة كانت أغصانها تتدلى على سطح الدار التي كان حسين مردان يسكنها آنئذ في بغداد، قائلا:

 

 "تلمّسْ الورقة ، تحسّسْ ملمسَها،

ثم اكتبْ قصيدتك"!

 

تلمّسُ هذه الورقة - النوذج  والرمز يعني هنا تلمّسَ الحياة  نفسها، والارتباط بنبضها وتضاريسها بشكلها الكونكريتي المادي، وما يمثله ذلك، على مستوى الكتابة الشعرية، من بعد عن الإفراط  التخييل، وترهل العبارة، والهوامش والأوصاف اللفظية الزائدة والكلمات غير الضرورية، خلافا لما يلجأ إليه بعض الشعراء العرب المحدثين من الإيغال في التحليق بأجواء خيالية ذات طبيعة لفظية بعيدة في كتابة القصيدة.

ميزة كتابة سعدي يوسف الشعرية الأولى تقوم على هذا النوع من الارتباط الواقعي الوثيق مع الوجود والطبيعة من حوله؛ الوجود الخارجي، ومباشرة الموضوع وإصابة عينه أو الثيمة والجوهر الرئيس فيه عبر تفاصيل والتقاطات واقعية دالة، لا تفقد فيها اللغة الشعرية عنده ألقَها وحرارتها ونغمتها الغنائية وإيقاعها العميق والدال.

  فالمهم هو وضوح الصوت وخصوصيته، وبساطته الآسرة التي لا تستعير من شعر الآخرين أو كلماتهم ولا تتكلم بألسنتهم. ونحن نعلم كيف أن سعدي يوسف لا يستقرُّ في حياته وشعره على حال، فهو يغيّر المشهد باستمرار ويرسم الصورة المألوفة أو المباغتة كما يراها في مرآة الواقع والخيال والحلم ، لتصبح دون غيرها (الحقَّ)، كما يقول في نهاية قصيدته (سامراء) التي نقرأها بين هذه المختارات:

 

" ستغيّرُ أنت المشهدَ

كي تبصرَ ما ترسمه أنتَ

فيغدو ما ترسمه أنت: الحقَّ..".

 

وتركيز سعدي يوسف المطّرد على استخدام الجملة الخبرية والفعل، والاسم الجامد، وابتعاده قدرَ الإمكان عن استخدام المصادر والصفات بأشكالها وصورها المختلفة في هذه اللغة، كما تبدو في عديد من قصائد هذه المختارات، يمثل مظهرا من مظاهر هذه الستراتيجية التي تنحو منحى ماديا في الكتابة الشعرية، خلافا للكثيرين من الشعراء الذين يعتقدون أن الإكثار من هذه المصادر والصفات هو الذي يصنع الصورة الشعرية، ويخلق مجد القصيدة الجيدة.

الفعل والاسم الجامد يعنيان تحديدا للحركة وتقنينا لزمنها، وتخصيصا لموضوعها، وابتعادا عن المنحى العمومي في الوصف الذي تفرضه في العادة مهنة الكتابة وتقاليد الشعرية العربية القديمة التي تمتد أفقيا.

 فلا وجود لما هو زائد عن الحاجة أو مترهل في هذا الشعر.

وقد روى لي سعدي مرة كيف أن محمود البريكان قد عاب عليه مرّة استخدامه لفظة معينة بدت غير مناسبة في إحدى قصائده المبكًرة. والمرزوقي الذي سبقت الإشارة إليه هو القائل في مقدمته النقدية الشهيرة الموضوعة على شرحه لديوان حماسة أبي تمام، تعليقا على من قال إن (أحسن الشعر أقصدُه):

 

"إن على القائل أن يبالغ فيما يصير به القول شعرا فقط، فما استوفى أقسام البراعة والتجويد أو جلها، من غير غلّو في القول ولا إحالة في المعنى، ولم يُخرج الموصوفَ إلى أن لا يؤمنَ بشيء من أوصافه، لظهور السرف في آياته، وشمول التزيُّد لأقواله، كان بالإيثار والانتخاب أولى".

(انظر، شرح المقدمة الأدبية لشرح المرزوقي على ديوان الحماسة لأبي تمام ، لابن عاشور، ص39)

 

كما أن علاقة سعدي القديمة ببدر شاكر السياب، واطلاعه المدقّق على اهتماماته الثقافية وتجربته الشعرية غير التقليدية، قد وفّر له خبرة إضافية تغني تجربته المادية والفنية الخاصة التي كان الاشتغال على المتن الشعري، وتحقيق السلامة اللغوية في أعلى مستوياتها، هاجسا أساسيا فيها، منذ بداياتها الأولى.

وسعدي يوسف حريص على مصادره التراثية، ومعاودة النظر في كل متون الشعر العربي الأساسية. وعنايته بلغة القرآن، ومراجعة لسان العرب أمرٌ يكاد يكون ممارسة يومية في حياته.

 واستخدام القرآن لحروف العطف وأدوات الربط بين الجمل، على سبيل المثال، هو النموذج الذي يتبعه سعدي يوسف دون كلل أو ملل، ويبني باستمرار على أساسه مفاصل الجملة الشعرية والنثرية وأدوات الربط فيها.

وهو ما يجعل قصيدة سعدي تبدو للقارئ، بهذا، قديمةً - حديثة في آن معا:

⁃ قديمة، أو قريبة من القدامة لغةً، وشكلا، وإيقاعًا..

⁃ وحديثة روحا ونبضاً واقعيا، مرتبطا بمكانه وزمانه وبمنابعه المحلية الأولى، يبهرك فيها تعلُّقه بالعربية الفصحى الصافية مبنًى، وبكل ما أنجزته الشعرية العربية والعالمية الحديثة مبنًى ومعنًى.

وورقة تلك الشجرة التي وضعها الشاعر حسين مردان مرة بيد شاعرنا الكبير ليتلمس الأشياء ويكون على صلة حيّة بها في شعره، تبقى، كما قلت، مجرد صورة، ورمزا للطريقة التي يجري بها التعامل مع الحياة والطبيعة وصورتهما المنعكسة في مرآة القصيدة. وهي، كما يذكر سعدي أيضا، المادةُ الخام التي يشتغل عليها المبدع، تماما كما يشتغل النحّات على مادة الطين أو الحجر، ويشتغل الرسام على الألوان، والموسيقيُّ على النوتة.

وذلك، كما نرى، مبدأ أساسي ذو طبيعة أخلاقية، وليست شعرية أو فنيّة فقط، تتصل بصدقية العبارة ومرجعها الخارجي الخاص بالعلاقة بين الكلمات والأشياء حيث ننتقل فيها من الدال إلى المدلول، ومن المجرد أو المجازي إلى المادي الملموس.

وقد يكون من الغريب أن نرى هذا المنطق الخاص بكيفية كتابة القصيدة عند سعدي يوسف يلتقي، على نحو ما، مع ما كان يقول به أرسطو الذي كان يستبعد في منطقه الجملَ الإنشائية بأشكالها الطلبية والشرطية، ويكتفي بالجملة الخبرية وحدها لتكون موضوعا للمنطق. فهذا النوع من الجمل الذي يمثل البنية المنطقية للغة هو وحده القادر في رأي آرسطو على الاتصال بالواقع الخارجي، فيما يبدو غير هذا النوع من الجمل الخبرية منبتَّ الجذور عنه. ( انظر بهذا الصدد، القضية المنطقية والجملة الخبرية في كتاب سعيد الغانمي، فاعلية الخيال الأدبي، ص 248)

وذلك لا يعني أن الشاعر يستبعد الجمل الإنشائية بأنواعها، وهي التي تؤلف وسيلة القصيدة الشعرية وطريقتها المختلفة عن الكتابة النثرية ذات الطبيعة المنطقية الإشارية التي تتخلى فيها اللغة عن كينونتها لتذوب فيما تشير إليه،  وإنما هو الشعر الذي يبقى قادرا على أن يستنطق اللغة نفسها انطلاقا من وظيفتها، ولا يؤمن بمثل ما  كان يقوله البحتري في بيته المعروف:

                               كلفتمونا  حدودَ  منطقِكم   

                                          والشعرُ يُغني عن صدقِه كذبُهْ

فهذا المنطق الشعري الداخلي الذي يستطيع أن يوقف فيضان اللغة وتداعيها الحر من أجل الوقوف على تعبير  أكثر حيميةً وقدرة على الكشف عن طبقات الواقع الذي نعيشه ويعمل الشاعر على مساعدتنا على فهمه، أقول إن هذا (المنطق الشعري) يبدو بعيدا في بعض جوانبه عن (المنطق الآرسطي). وهو، كما قلت، بعيد عن الكذب بكل أنواعه الأخلاقية والفنية وامتداداته الرومانسية المزيفة.

 

ولا بدّ أن يكون اطلاع الشاعر على المنجز الشعري العالمي المكتوب بغير العربية وترجمة نماذج بارزة منه، قد خفّف كثيرا من وطأة البلاغة العربية على بناء قصيدته، ومحمولات اللغة ومضامينها التقليدية. فقصيدة سعدي قد وسعت من  مفهوم الشعرية العربية لتصبح أعمق دلالة وأكثر قابلية على التأويل عبر تحولاتها المختلفة، دون أن تمس الثوابت الخاصة ببناء الجملة العربية بكل ضوابطها اللغوية والنحوية والصوتية القارة. والتنقيب عن الأشياء يترافق لدى سعدي مع التنقيب في الكلمات، ولاسيما تلك التي خلفها كبار الشعراء المعاصرين والسابقين من الذين قرأهم أو ترجم لهم ونفذت بعض تجاربهم وأصواتهم بعمق إلى شعره بالطريقة التي لا تضعف من خصوصيته ووضوح صوته، وقلقه الدائم حول نوع القصيدة التي يحاول كتابتها كما لو كان يبدأ في كل مرة التجربة من جديد.  

 وقد ذكر الشاعر  نفسه في أحد اللقاءات الصحفية أنه :

"بعد نصف قرن من الكتابة والتجريب أجدني لا أزال في اللحظة الحرجة، وربما هذا الإحساس المستمر باللحظة الحرجة هو الذي منحني قدرة على الاستمرار في الكتابة، ولربما في محاولة تجديد النص الذي أكتبه. أحيانا تتخذ عملية النص الذي أكتبه طابع مراجعة شاملة وقد تستغرق الانتقالة الجديدة عقدا من السنوات، أو أكثر أحيانا. لكن بعد انتهاء هذا العقد أجدني مرة أخرى أمام امتحان قاس أيضا، أحاول فيه محاولة أخرى وهكذا. إنني اعتبر نفسي محظوظا لأنه أتيحت لي فرصة الحياة أكثر من بعض الشعراء مثل بدر شاكر السياب الذي توفي مبكرا، وهناك شعراء آخرون رحلوا مبكرين أيضا. هذه الحياة الطويلة أتاحت لي فرصة الاستمرار. ومع السنوات تبين لي أنني لا أملك نشاطا حيويا غير الشعر. نشاط أعتمد عليه وأحاول أن أطور فيه. والآن حياتي الفعلية سواء في التعامل مع الكتابة أم في التعامل مع الطبيعة، أو مع العالم بشكل ما، حتى في السياسة أتعامل بما تمليه علي استراتيجية الفن أكثر من النظر الى تكتيك السياسة بين حين وآخر، وبين حدث وآخر."

وهذا الوعي النقدي هو الذي يمنح قصيدة سعدي يوسف صلابتها وقوامها اللغوي الفريد، ولا يجعل منها مكانا لكتابة الإنشاء الجميل أو التعلق بالأوهام، والأكاذيب الشعرية واغراءات الصور البلاغية الفائضة عن الحاجة والمحسنات اللفظية التي يمكن أن تتحول بسهولة إلى مقبّحات. فهي مكرسة للغة الشعرية الحية التي تتناول تجارب الإنسان الوجودية الصميمة وتوترات الواقع المعيش بأحداثه الكبرى وشخصياته الفاعلة  بطريقتها الخاصة المتغيرة، وغير الثابتة ثباتا نهائيا بسبب تحولاتها الدالة بين مرحلة وأخرى، وأحيانا بين قصيدة وأخرى داخل المجموعة الشعرية نفسها.

ونحن نقول ذلك على الرغم مما نشهده من ثبات المنحى الأسلوبي والملامح الشعرية العامة لدى الشاعر.  وهي تندرج في هذه المختارات في إطار اللغة التي تتأمل الواقع والطبيعة، تتلمسهما، وتسبر أغوارهما وتضيئ غياهب الروح وطرائق الكتابة بالتماعات خاطفة وألوان مختلفة، حيث الصورة المرئية هي التي  تغذي، رغم واقعيتها ومصادرها الحسية المباشرة، عمل القصيدة، وترسم طريقتها، وتعمل على صنع أدائها الشعري المراوغ في دلالاته وأصواته واستداراته وفراغاته وآفاقه التأويلية الخصبة.

 

 

 

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved