أي عُمْرهذا الذي يتم استثماره انزياحاً، ومن هو هذا الغريب الذي مدَّته الروائية سلمى مختار امانة الله بهوية بعدد أيام السنة وثمانية آهات ورقية، كبطل تراجيدي متعب بوعيه ؟
عمر الغريب هذا السارد الورقي الذي تمكن من تورية اسم من ينحت هذه المادة الحبرية، ليستبد بمساحة إسماع صوت الذات للذات، لم يبرح عقر أناه التي زُجت في قمامة أرواح خدج :
"حياة نحتتها مطارق القسوة، وطوعتها لفحات الحرمان الحارقة، مدين ببقائها علي قيدي لشراسة رضيع تشبث بحواشيها، لم يستسلم لمصيره المتربص رغم أنه لم يجد رحيماً غير حضن حاوية قمامة"ص220 .
الجمالية اللغوية للمتن لم تلتهم بلاغة القسوة التي تشد القارئ من نهاية الخيط إلى بدايته، فالرواية تبدأ بجثة عمر الذي كان هو نفسه أول من عثر عليها، "من ز ج عنق العمْر؟ ص10 ، أي عمر يقصده السارد:
هل الذي انقضى برصاص هاو أم الذي اغتيل في المنبع ؟
لغة طيّعة لحبكة مستعصية على التفكيك، تستدعي استعارة منهج نفسي لاستغوار أسرار الشخصية النصية التي تعيش ردة سيكولوجية تُمعِن في بسط ثقوبها الجوانية مسهمة في اندلاق عقدة النص كزمن ثمل، تتلاشى صعوداً لتصل لذروة الصحو حينما يسيل لعابها كلما راودتها لذة فطيرة المشمش التي تذوقتها ذات حرمان من عناقيد السيدة صاحبة السيارة السوداء الفاخرة .
متلازمة شطيرة المشمش عقدة اللذة عند بطل الرواية عمر الراشد التي لم تُشبع كنشوة أوديبية غيرمكتملة، وفعل محرم ناقص، نراه كلما انتكس، يعود لوضعية الجنين في رحم إيكوغرافي، يعاينه بيد طبيب توليد خبير في الأجنة التي لم تطرح بعد بين نفايات الوجود .
قلق التخلي، أسى الهجر، يقوداه للثأر من عمر، الطبيب النسائي الشهير بكفاءته ووسامته، ليمعن في عملية بتر كل حبل لا يمده بحليب العطف... لا واحدة منهن حاولت أن تقترب مني بصدق، لتنصت بتروٍ، لعلها تقبض بحنو على نبرة الأنين التي لم تفارق صوت ذاك الصغير، الجائع، الخائف، المرتعش، المتوجس، المرعوب، المبلل، الهارب، الوحيد، ولا واحدة منهن حاولت أن تمد يدها لتقطف شطيرة المشمس من شجرة الحرمان المتدلية بأغصانها المثقلة والمتشابكة داخل الروح ص233
اليد التي تمتد للقمامة لتقتات غير مطالبة بهدر حنان زائف، يكفي أنها سلته من أنياب كلاب جائعة، فالتي اعتقدها عمر الغريب أمه لم تكن إلّا قرباناً للصدفة في هامش لا ينتصر إلّا لهامش آخر بديل، فرغم قساوة امه التي تبنته فلم يكن يعرف مرجعاً غيرها حتى عندما تركته أمام باب مسجد في حي بعيد ضيعت مفتاح طريقه عنوة حتى تغلق عليه منافذ العودة .
كنت أبكي خوفي وجوعي ورهبتي، أبكي بيتا ضاعت مني طريقه، وأماً اجبرتني بقسوة على الضياع .
هرب الطفل من فقيه الثقوب التي لم يضفر منه إلّا بآيات بينات على صلاة الفض، نأى بخرمه المتقرح إلى أرض عذراء إلّا من عوزها الفاجر، بنية تحتية أمية سقطت من حقائب القرب، قرية اضطرت لخلوة قهرية ترحب بخلويي الروح كعمر الغريب القدر الذي رماه بين أيادي مي عيشة الجدة العجوز التي عمّدته بتعويذة عيش أخرى تحت سقف عنيد ومعاند ليدرس في قسم يتيم -إلّا من معدني الزنك والاسمنت- منثور في حواشي غير نافعة لا موضع فيه لمناصفة النوع ضمن صفوفه إلّا لملكة أحلام عمر " ابنة المدير " ووصيفتها عبوش .
أحلام عصية كلما دنت كسرها، أحلام لم تطلها روح سكنت القبو وظلت عزلاء إلّا من ندبها المبني للمجهول، شاسعة تفوق تطلعات حوافي الجب الجواني لعمر، الذي كلّما عبثت به أمنيزيا اللاشعور الا واستلم حاسة الملاحظ والمراقب الفطن لقضايا عالم أوسع تصله بها حبال معرفة نبيهة لا ندري من أي جينات اختلست، ربما من كروزومونات مثقفة ثورية تحمست ذات نزوة لنزق رغبة متحررة :
القرية التي ظلت نكرة على خرائط تنمية البلد طيلة تاريخها الضارب في العمق، تشهد على قدمها أنقاض قلاع وتخوم بائدة، لا يزال ما بقي منها حاضرا يقاوم تقلبات الدهر"
برعت الروائية سلمى مختار امانة الله في ممارسة رمزيتي الاختفاء والاحتواء
اخفت علينا كقراء الخيوط التي تصلنا بالذات الكاتبة، لتجعل من عمر الغريب المنظّر لنظرية المشمش كفاكهة قصيرة العمر تمر وتخلف لذة الاستحلام .
.أحلامي اخترت أن تكوني كنهايات الكتب العظيمة، فهرساً أو دليلاً يأخذني ليتك ليصطحبني إلى مكامني العامرة، مختصراًعلى كلانا عمراً من الصفحات الطويلة الفارغة" .
عمر الغريب شخصية روائية نهلت من مدرستي الجمالية والواقعية موسومة باستثارة اللاوعي لمحاكمة الوعي بتعرية وهم وجودي يسائلنا جميعاً .