تتوزع قصائد مجموعة “مولاتي أنت” لموفق ساوا* على محورين :
خاص، ويغلب عليه الرثاء والغزل (التودد بلغة أدق) . والموضوع في هذه الحالة ذاتي ومحدد، كما في مدائحه لزوجته هيفا، أو رثائه لبعض الأصدقاء والرفاق ابتداء من سركون بولس وتوما توماس وحتى بعض أفراد العائلة، ومنهم أمه (قصيدة أمي - ص48). مع ذلك يوجد فرق جوهري بين النوعين. فالمدائح لها قالب حكائي يسترجع ذكريات الماضي، مع التركيز على خصال الزوجة التي تتسع أحيانا لتبدو كما لو أنها رديف لمعنى الوطن والنضال ودروب الحياة الشاقة .
مثلا يقول في قصيدة “ما أعظم اسمك”:
هي للأرض ماء
وللطيور سماء
وهي لكل داء
دواء .
ومن الواضح أنه لا يصور زوجته بلغة عاشق أناني مغرم، ولكن بلغة موضوعية رقيقة، أو لغة طلب وإجابة (حاجات). ولذلك أصبحت هيفا بالنسبة له (معرفة وطبيعة) فهي: كل حروفه، الشمس التي مزقت سجف الظلام، درب الخروج والخلاص من الخريف (ص32 - قصيدة عيون هيفا) منجهة. كما أنها (سور حماية ودليل ومرشد) فهي الخيوط الفضية في ثوبه وكرة الضوء في مرمى لياليه من جهة مقابلة. (ص34). وهذا يعني أنها ليست مجرد حواء أو امرأة خلقها الله من أضلاع رجلها (حسب رواية الكتاب المقدس) بل إنها وجود نافع وخارجي. ولذلك لا تدخل هذه القصائد في مضمار الأشعار الغزلية التي تعودنا عليها من شعراء الستينات وما بعد مثل نزار قباني أو شعراء الثمانينات وما بعد مثل يحيى السماوي. فهي دون إيروتيكا ولا مشاهد خصوبة، كما أنها بريئة تماما من لغة الفحولة - الماشيزمو التي طالما أسرف بها نزار قباني. كما أنها أقرب للاحتراق الداخلي الذي يشير لمعاناة ليست غامضة على الإطلاق، بل تؤكد على نوع من التفاني والإعجاب برفيقة دربه - ليس امرأته ولا محبوبته فحسب . بالإضافة لمماهاة، مع إعجاب منقطع النظير، بطبيعة كل شيء فيها ساحر ومؤلم. ولا أرى أي تناقض في طرفي المعادلة. ولطالما أكد فرويد على تكامل دورة الألم مع دورة اللذة، حتى أنه يعتقد أن تقاطع الدائرتين شيء محتم ليكون للمتعة هدف أو معنى يستحق التضحية وتحدي المصاعب. إنما لا يغيب عن ذهني أن الغزل لم يمهد لقصيدة عائلية. فقد كان الأبناء غائبين تماما عن الصورة، وهذا يرشح غزليات ساوا لتكون قصائد مشحونة بالليبيدو الذي يترفع على نفسه. بمعنى أنه ليبيدو عفيف .
بالمقابل تبدو قصائد الرثاء مجازية وقابلة للتصور فقط. وأهم شيء فيها أنها لا تخلع صفات خارقة على الشخص الميت الذي فارقته الحياة. وهذه نقطة تستحق الانتباه أيضا، أن الميت لا يقضي نحبه، ولكن حياته هي التي تتخلى عنه. وأهم دليل على ذلك افتتاحية قصيدته “سركون بولص”. وفيها يقول:
سركون...لم يرحل... غادرنا الجسد السقيم (ص82) .
وهذا يضاعف من حجم المأساة، فيبدو الميت ضحية لواقع مجحف وغير عادل وعشوائي. كما في قوله :
سركون..
تركت عالم الوحش
والزؤان
عامنا.. (ص83).
ويكرر ذلك في سياق قصيدته (عودة النور إلى القوش) وهي مخصصة لرثاء توما توماس. فيقول:
أنت شمس القوش والقمر
أنت عمرها الخالد والصبر الذي لا ينتهي.
ثم يقول:
كتبت بحبر دمك
حروفا في طول قامتك (ص123) .
ولا ضرورة للتذكير أن إلحاق القيمة الرمزية، بما هو مادي وملموس، يخدم غرضا شعريا واحدا كان معروفا منذ أيام البويطيقا الإغريقية وهو (التصعيد)، أو تحويل الصفات الفانية لأفعال تاريخية تتجاوز جدار الزمان .
كما أن رثائيات ساوا ليست حكائية، ولا تهتم بسيرة الميت ولكن بمواقفه من ألد عدوين له، مخاطر الحياة والموت الغادر .
المحور الثاني هو القصائد النضالية والتي تتحول في بعض اللحظات لكلام ساخط على طريقة مظفر النواب “غيفارا الشعر العربي بتعبير يحيى السماوي”. وأحيانا تكون رقيقة وحزينة وبقالب رومنسي. وإذا كانت قصائده الغاضبة تستعمل وتكرر مفردات ملتهبة مثل النار والسيف والشرف والنحر، مع مفردات هجاء لاذع مثل القواد وأولاد الزنا ومسيلمة (إشارة لأخلاق المداهنة والرياء - انظر قصيدته “غضب”. ص126)، فإن قصائده الحزينة تميل لاستعمال نبرة عتاب يخالطه الندم والبحث عن توبة أو مغفرة حتى لو تأخرت (تقاويم - ص26) .
وليضمن وصول رسالته أو خطابه الشعري يلجأ لحيلة المونولوج الدرامي. وهنا نحن نعرف المتكلم جدلا (وهو ذات الشاعر الإبداعية - أو لحظة تكوين شعريته في الذات - إن استعرنا مصطلحات بارت)، ولكن لا يمكننا تحديد المخاطب. فهو افتراضي وشامل أو عام. ويمكن أن يكون مسقط رأس الشاعر في العراق أو أي أرض شهدت انتفاضات جماهيرية ضد الطغيان أو قد يكون الإنسانية كلها. ولذلك يبذل جهده ليستخلص القاعدة من الظواهر البسيطة والعارضة .
وأوضح مثال على ذلك قصيدته “النهر مصبه البحر” ص128. وهي بكائية ترثي الواقع العربي غير الموضوعي، وتعتقد أن نهاية المطاف يجب أن تكون إيجابية ولصالح الإنسان البسيط والمظلوم. وبهذه المناسبة يرى ساوا أن المكان مضرج بالدماء حقا لكن الزمان يتحرك وعجلة التاريخ تدور بسرعة قطار على القضبان. والنتيجة الحتمية هي بزوغ الفجر. وهي حتمية متفائلة جريا على عادة الأدب النضالي. وبهذا الاتجاه يقول :
أنا راحل مرتحل
غائب في التواءات
الأزقة والشوارع
في القطار المضرج بدمي
والزمن يعزف أغنية
والطيور تزقزق للفجر :
“سيصب النهر حتما في البحر” .
وهنا يخالف موفق ساوا غيره من أبناء جيله، ولا سيما رواد الجيل الثاني من الحداثة أمثال سعدي يوسف أو محمود البريكان أو حتى القاص والروائي إسماعيل فهد إسماعيل (الذي يكتب أعماله النثرية بلغة ملغومة وشعرية - لغة استعارات راديكالية). فهم دائما يبحثون عن استثناءات مهما كانت نادرة وغير محتملة لينبهوا بها الحساسية الشعرية ويضمنوا لها شحنة من التغريب الإيجابي والمقاوم. ويكفي أن نذكر على سبيل المثال عنوان رواية إسماعيل: “النيل يجري شمالا” والتي تخالف قاعدة جريان المياه من الشمال للجنوب. وأضيف لذلك مخالفة أخرى وهي ابتعاده ولو باللاشعور عن الإشارة لهجراته المتكررة بين تركيا وأستراليا. ربما لأن الهجرة تفرض نوعا من التخطيط والنية المسبقة. ولكنه استعمل مفردات تشير للغربة والاغتراب والوحشة والفراق وغيرها. وهي كلمات تدل على أحوال مستديمة وليس أمكنة مؤقتة. حتى أن حوالي ربع قصائد المجموعة مخصصة لأناشيد لها علاقة بالحنين وبقايا ذاكرته المهشمة، وقد غلب على هذه القصائد صفتان .
الأولى تكرار كلمة عراق وقوش (قرية الشاعر)، وبنفس الطريقة التي دأب السياب، وليس البياتي على استعمالها، كما في قوله: (مزقوا ثوبك المطرز يا عراق. ص42) .
وقوله: (قم واعرب عاش العراق. ص 156) .
وقوله: (إليها إليها أنادي عراق. ص 253)، وهكذا .
والثانية التأكيد أن السفر كان بالإكراه وليس بمحض اختياره الشخصي، ولم يكن الدافع هو المكان بل قانون اللحظة أو الحقبة، كما في قوله :
عفوا يا أستاذي
أنا اليوم في الاغتراب
لا يدفئني غير الموقد العراقي
لا يطربني إلا النغم العراقي
ولا يشبعني إلا الرغيف العراقي. ص160 .
نقطة أخيرة. تغطي قصائد المجموعة نتاج الشاعر في خمسين عاما (1976 - 2021)، ولا يطرأ خلال هذه الفترة أي مفاجآت على الأسلوب، بل يحتفظ بثالوث تجربته الشعرية، وهو :
1- الوضوح بالمعاني .
2- البساطة بالتراكيب والصور. فهي بعيدة كل البعد عن ألغاز ومعميات الحداثة، وما تسببه للقارئ العادي من صداع. وكما لاحظت زينب حداد في تعقيبها على المجموعة: “هو شعر تلقائي وبريء يخلو من التصنع والاستعراضات المجانية”. ص 254 .
3- الالتزام بالتفعيلة والقافية (حسب رأي حميد الحريزي في مقالته المدرجة في نهاية الكتاب ص 290). والحقيقة هي قافية مخففة أقرب لنمط المقامات وليس بحور الشعر، وأحيانا يبني الشاعر خياراته على هذا الأساس، كما في قوله :
تخرجت من مدرستك الأول في الفصل النهائي
وتعلمت كتابة حروفك من شين إلى تاء. (ص - 209 . قصيدة “مولاتي أنت”) .
لاحظ هنا كلمة نهائي مع حرف التاء المجرور .
ويلجأ لنفس الأسلوب في آخر قصيدة وهي “خمرة.. كوني”، وفيها يقول :
علميني حروف الهجاء
من الشين إلى التاء. ص240 .
ولا أرى أي تفسير منطقي لتسلسل التاء والشين إلا ضبط الإيقاع. علما أنها قد تتضمن معنى كلمة شيوعية (حزب الشاعر) .
* صدرت المجموعة عن منشورات صحيفة العراقية الأسترالية في سيدني عام 2021 (384 ص) .