الذاكرة النسائية في نصوص الدكتورة جنان النعيمي

2021-11-23

جنان

بعد أن تنتهي من قراءة “تعويذة السفر عبر عينيه” للدكتورة جنان النعيمي*  تلاحظ أمرين اثنين :

الأول أن عددا من النصوص هي قصائد شعرية، تتبع بحرا معروفاً من بحور الشعر مع قافية بسيطة أو متعددةر. ومع أن التجديد غلب على توزيع التفعيلات - ليس بطريقة الشعر الحر وإنما على أساس فلسفة تجديد عمود الشعر العربي والانتقال به من البداوة والصحراء إلى التحضر ومجتمع المدينة والبلاط والبيت - يبقى كل شيء ضمن الحدود المتعارف عليها .  حتى أن هذه القصائد تعزف على نغمة العتاب والشكوى والندم بطريقة منهجية، رقيقة، ومخملية، تعيد للذهن صفحات ذهبية من تاريخ الشعر العربي .

والحقيقة أنه يوجد تكامل بين قفزة الأسلوب والموضوع . فالشعر فن ذكوري أساساً، وناجم عن خبرة يغلب عليها دراما الصراع مع العناصر . وربما لهذا السبب يسمى رواد الشعر بالفطاحل أو الفحول . وهي ليست مجرد تسمية عفو الخاطر بل تحمل عنجهية ذكورية وبطريركية ضد الوجدان المؤنث الذي كان هو موضوع القصيدة (النسيب والغزل) دون أن يصل لدرجة أن يكون هو صوت القصيدة أو حامل أسلوبها . ولم تنكسر هذه القاعدة إلّا بعد الإنتهاء من ثقافة التنقل والترحال والدخول في مرحلة من الاستقرار والرخاء. وفي هذه الفترة أمكن التناوب في أي قصيدة بين صور قاسية لتجربتنا مع الواقع، ومشاعر رقيقة تعكس إحساسنا به . 

مثلا في قصيدة “الرهان الخاسر” تعترف الذات بالهزيمة، ولكنها تستعمل بحر الرجز بتوزيع مختلف يتكون من بيت شعر مع قفلة على طريقة التروبادور، كما في قول الكاتبة :

هذي جراح العمر واشي الهوى / تنساب دفقا هادرا من عرشه

أكنت في سمائه تحلقين ؟؟. ص 71 .

وبالمثل في “هوى مجنون” تركز القصيدة على تنويع الأصوات والحركات مع أن الموضوع هو عن يأس العاشقين ونكبات الدهر، كما في قولها :

أهواك نصالاً في كبدي / جرحا مسموما أزهو به

جمراً يتلظى في بركان (ص118).

وربما لا يوجد مثل هذه المازوشية الغريبة إلّا في تجربة شعراء المهجر وعلى رأسهم نسيب عريضة مؤلف “الأرواح الحائرة” .  فقد كان يجد السلوان بامتحان الذات أمام المخاطر . بالضبط مثل بطلة قصة (تنفيذ الحكم) للنعيمي والتي ترى أن في صرعات الموت إحساساً لذيذاً (ص110) .

الأمر الثاني ويشمل بقية النصوص، وهي من النثر الذي لا يخلو من نفحة شعرية . ولكن يصعب جداً أن تجد قاسماً مشتركا بينها . فهي موزعة بين قصص قصيرة وقصص خيال علمي ومونولوجات . وأحياناً ما يشبه قصة اللمحة (قصة نساء لهن بقية - ص123) .

السؤال الآن ماذا يبرر جمع هذه النصوص في كتاب واحد ؟ .

ربما ليس هذا السؤال من حقنا لأنه توجد سوابق كثيرة بهذا الأسلوب . وإن لم يكن من المناسب الآن الاحتكام لمنهجية العقاد أو المازني، لا يمكن أن ننسى أدونيس ومؤلفاته المثيرة للجدل، والتي تخلو من أي عمود فقري وتتبع منولوجاتها وحدسها، حتى تتراكم بشكل تكهنات رقيقة حول قضايا تطبع هذا العصر، كما فعل في كتابه “فاتحة لنهايات القرن” . وتبعه بذلك السوري محمد عمران في “أوراق الرماد” . في هذه التجربة تلعب الأفكار والأساليب دون أي ضوابط باستثناء ترقية التلقي إلى إرسال، أو تنقية المشاعر من عجمتها وتحويلها لمنطق خطاب حر يلتزم بمغزاه فقط، أو بالحكمة المرجوة منه .

وهذا هو كل ما فعلته جنان النعميمي . لقد باشرت من النتيجة لتعود إلى الأسباب . بتعبير آخر إنها بدأت مما هو محسوس لتقودنا من أيدينا نحو ما يتراكم في الخبيئة النفسية والذهنية . ولذلك لم تلتزم لا بأصول الحوار ولا أصول الحبكة أو الشخصيات . كان كل شيء يتداخل مع كل شيء . فالشخصيات تردد صدى أفكار غيرها بالإنابة كما تفعل بطلة قصة (لحظات ضائعة) مع حبيبها الغائب فتقول عن نفسها بضمير الغائب : “سيدة البحار السماوية تغرب عن سواحلها الشموس” ص17 .

وأحياناً بقوة الافتراض كما في قصة (عيون ومطر) حين يسأل الرجل حبيبته : هل تأخرت ؟ . وترد بصمت : دهراً.. ولكن لا يهم ما دمت هنا . ص33 .

ثم تهمس له سراً : إني أشم عطرك في أنفاسك . ص35 .

وأحياناً يتداخل المذكر مع المؤنث بوضعية مؤلمة كما يجري في أي كابوس مزعج . ودائماً توجد غلالة رقيقة وفي بعض الأحيان سميكة وعازلة تحجب عنا الرؤية وتعمينا . وإذا سمعنا الأصوات فهي تزيد من درجة الارتباك بسبب عدم وضوح شكل المتكلم أو ضميره (أنت لا تعرف هل هو المتكلم أم المستمع) . وأحياناً يوجد شخص واحد ينفرد بالساحة، ويكلم نفسه وخياله المطبوع على الجدران . وهنا يطيب لي التذكير بقصة “أرجوحة طرزان” للروسي فيكتور بيليفين . فبطل القصة بيوتر بيتروفيتش لا يعرف هل هو يتوهم أم أنه فعلاً يرافق شخصاً آخر، وهل هو يكلمه أم أنه يحاور خيالاً تلقيه النوافذ المعتمة على الشارع المضيء ؟؟! . وهذا يعني أنه يوازن بين أضداد : داخل غامض وخارج فضائحي . وربما كانت النعيمي تتعمد ذلك في مونولوجاتها الفردية . فهي تفترض أنها تقرع وتؤنب نوايا يقع عليها اللوم . لكنها نوايا / أو أفكار غير محددة وغير مفهومة . 

وتعلن عن ذلك بصراحة في قصتها (وخز الغربة) وتقول : أصبحت كل الصور أمامي بلا ملامح . ص 37 .

 لهذا السبب لم تكن تسمي لا الأماكن ولا الشخصيات، وغالباً تشير لها بضمير منفصل (هو - هي - هما) أو بضمائر متصلة . وقد حملت بعض القصص عنواناً من هذا النوع، ومنها قصة (هو وأنا - ص23)، (أنت أنا - ص105)، أضف لذلك قصيدة (أنت - ص94) .

وإذا كانت النعيمي تضاعف من التعمية علينا، أشك أنها لم تكن محتارة أيضاً . وفي جميع القصص بلا استثناء كلمات مباشرة وصريحة تدل على اضطراب منبعه عدم التفاهم مع الواقع .

مثل قولها : هذه الأحجية غريب (ص13)، لم تكن تعي ما تفعل (ص14)، حركات لا إرادية (ص52)، ترضى باللاشيء (ص104)، إلخ...

لقد تحكمت بهذه النصوص فلسفة المرأة المظلومة والمكسورة، واستعملت كثيراً ما نقول عنه أسلوب التظلم المفضوح . فهي تلقي باللوم على الطرف الآخر - المذكر دائما دون أن تقدم أدلة . وبراهينها كلها ظرفية ولحظية وظنية أيضا، مبنية على ذاكرة مغلوبة تقول عنها إنها “أيام مهدورة” ص147. بعكس ما فعلته رائدات الأدب النسائي مثل وداد سكاكيني، فقد كانت تدعو لإصلاح المجتمع الذي جرد المرأة من حق الاختيار . وبعكس الأصوات المتمردة لأدب الحداثة المبكر . على سبيل المثال ليلى البعلبكي في “الآلهة الممسوخة” . فهي تصر على ارتكاب الخطيئة وتعتبر أنها أول خطوة لتحقيق المساواة بين أفراد المجتمع وإلغاء ما يسميه الحداثيون “خصوصية خطوط الإظلام” . وتذهب لأبعد من ذلك وتعتبر أن الخطيئة دائرة معتمة (خط إظلام يشمل ارتكاب المذكر والمؤنث لعمل واحد نسميه ظلما باسم معصية) . لكنها ترى أنه تحرير للوعي . 

باختصار في نصوص النعيمي تذمر يصل لدرجة التشكي من طغيان الذكور . وبلغة خليل أحمد خليل هناك إشارة مضنية وحزينة من تابع لمتبوع . وهذا إلى حد معين، ثم ترتفع راية العصيان، ويتحول التباكي إلى أفعال عدوانية وشرسة . وتبدو لي هذه النقطة مفصلاً ثابتاً في كل بنية نصوص النعميمي، وهي منبع الدراما الوحيد في جميع نصوصها .

بالنهاية وإن كنت عملياً أفضل التخصص، وأدعو لاستبعاد القصائد (فالعصر الحالي هو عصر تخصصات نوعية)، يبقى الهم العام ضمن إطار واحد، تعبر عنه امرأة متقلبة المشاعر تقاوم طغيان ومظالم اقتصاد العائلة الربحي الذي يقود الجميع، في خاتمة المطاف، لمشاعر متضاربة تخلو من التفاؤل .

ولذلك بهذا السياق تتطوع بطلة إحدى القصص للبحث عن مكان للتفاؤل (ص76) . لتتساءل في قصة تالية : أين الحكمة من مواجهة الحب بالعقاب والجبروت ؟. ص82 .

 

*صدر كتاب “تعويذة السفر عبر عينيه : رؤى جامحة” عن دار سطور ببغداد - بالتعاون مع دار سومر. 2021 في 155ص .

 

تشرين الثاني 2021

 

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2024 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2024 Copyright, All Rights Reserved