يعود الفضلُ في كتابة هذا التقرير إلى الوثائق والدراسات والمجلات التي وفرها لي مشكوراً المركز الثقافي في مدينة (الخُمس) بليبيا طوال فترة إقامتي في ذلك البلد العزيز علي, هاشم.
ويؤكد الكاتب التونسي حبيب بولاريس أن (النجاح الأكبر يحققه أولئك المقاتلون المنحدرون من التتظيمات الدينية، الذين لا يهتمون كثيرا بالتفاصيل النظرية. فالمقاتل الذي ينتسب إلى التنظمات الاسلامية لا يهمه الموضوع، بل يهتم, قبل أي شيء آخر، بالرسالة). وكمثال على ضعف الإعداد النظري لأعضاء هذه التنظيمات, يورد حبيب بولاريس الجهالة في قواعد الدين, الأمر الذي بان جلياً عند الكثير من أعضاء تنظيم الجهاد أثناء مجرى المحاكمات، هذا التنظيم الذي كان مسؤولاً عن اغتيال أنور السادات. وواقع الأمور هذا يفسر، إلى حدٍ بعيد، باتساع القاعدة الاجتماعية لهذه التنظيمات، وانتساب أعداد كبيرة من الأشخاص غير المتعلمة, المنحدرة من الشرائح المدينية الفقيرة. إلا أنه وإنطلاقا من هذا التأسيس لا يمكننا القول أن هذه التنظيمات غير مؤدلجة. فالأعضاء الأنصار كما الأعضاء العاملين لهذه التنظيمات يخضعون لاعداد ايديولوجي مكثف, على التوازي مع الاعداد النفسي والعسكري. لهذا تعتبر الدعاية أحد التوجهات النشاطية الرئيسية للتنظيمات الدينية السياسية المعارضة. وتنفذ الأخيرة في أشكال شفاهية وكتابية باستخدام الوسائط البصرية والمركبة.
أما الدعاية الشفاهية فتستخدم بطرق مختلفة في أماكن تجمع المؤمنين، في المساجد كما في الأماكن الرسمية التابعة للمؤسسات الحكومية، وفي تلك المراكز السرية، حيث تُقرأ المواعظ والخطب. في المقام الأول، يمكن أن يقوم بهذه الأعمال رجال الدين الموظفين لدى الدولة، الذين يؤيدون، بهذا الشكل أو ذاك، هذه التنظيمات. وفي أحيان كثيرة، يتم فيها استبدال الإمام المُعين رسمياً من قبل الدولة، بإمام آخر يكون من نشطاء هذه التنظيمات. وللسيطرة على أماكن تمركز المؤمنين، تستخدم هذه التنظيمات حالتين: الأولى، حيث يكون هنالك عدم كفاية في الأئمة المؤهلين()، وثانياً: افتتاح أمكنة لإقامة الصلوات (قاعات، غرف، ...إلخ) في المؤسسات والمعاهد، وذلك بطلب من هذه التنظيمات, حيث لا يوجد ملاك لتعيين إمام فيها يئم الناس().
في هذه الحالة أو تلك, يمكن أن يقوم بمسؤوليات الإمامة أي مؤمن. وقد يتجاوز إمامة الصلاة بإلقاء خطبة. وذاك هو ملك المغرب في معرض كلمته أمام رجال الدين في 22 شباط/فبراير عام 1984، عندما تحدث بقلق عما يجري في العديد من مساجد البلاد: (تتحول هذه المساجد إلى أمكنة لتجمع الناس، الذين لا يصلون كما سواهم). وهنالك (تتحول المواعظ إلى مناظرات). والأشخاص المسؤولون عن مراقبة هذه المساجد (لا يسمحون للناس بالدخول إليها إلا حسب اختياراتهم الخاصة). وفي دولة أخرى من شمال أفريقيا, وهي تونس, تمكن الأصوليون من فرض صنائعهم في (300-500 مسجد)، بطرقٍ مختلفة، متجنبين بذلك الأئمة الذين لا يروقون لهم.
تسعى التنظيمات الإسلامية السياسية المعارضة لتحويل المساجد الموجودة إلى مراكز لنشاطاتها. ففي تنظيم الأخوان المسلمين في السودان ينصحون أن يكون هنالك "مسجد واحد في كل شعبة يخصص للعمل التنظيمي"، "نشر النشاط التنظيمي على كافة المساجد بقدر الإمكان، تلك المساجد التي تقع ضمن منطقة نشاط الشعبة", "تكثيف الجهود لاختراق لجان المساجد للتأثير عليها تطبيقاً لمهام التنظيم.
أما فيما يتعلق بالمساجد غير الرسمية، أو تلك غير المسجلة رسمياً أو تلك التي لا تُراقب من قبل الدولة، فيوجد نوعان منها: الأول -ما يسمى بألمساجد الأهلية- تلك التي تُبنى من قبل المؤمنين، والأكثر مناسبة لذلك هي الغرف الكبيرة والتي تُقام فيها العبادات بشكل مفتوح. والمساجد الأهلية _ تُعبر عن الصراع الأبدي بين الإسلامين "الحكومي" و "الشعبي". وهنالك العديد من المساجد، التي تُبنى على نفقة الدولة، وهي, كالعادة، كبيرة وواسعة جداً وفخمة، وتُشيد عادةً في المساحات العامة وبالجوار من محطات القطار وفي تقاطعات الشوارع الهامة، وغالباً ما تقوم شركات البناء الأجنبية بتصميمها وبنائها. وهذه المساجد مخصصة لأعداد هائلة من المؤمنين، وهي التي لا تضعها التنظيمات الإسلامية السياسية المعارضة بعين اعتبارها. والسبب في ذلك أن هذا النوع من المساجد لا تتقيد بالتقاليد االاجتماعية لعلاقات الجوار. كما أنه يصعب الوصول إليها (مشاكل المواصلات الأبدية في المدن العربية المزدحمة)، وهي لا تستطيع أن تصبح أمكنة للعبادة كتلك القديمة المتواجدة في القرون الوسطى. والمؤمنون، بوعي أو بدونه, ينظرون إليها كتعبير عن الجبروت. وغالباً ما يتشكل انطباع بأن مهمة هذه المساجد الرئيسة -إثارة الدهشة وانبهار السواح الأجانب.
لهذا يفضل ألمؤمنون البسطاء الذهاب إلى مساجد الأحياء القديمة، وإذا كانت الأخيرة غير متوفرة, عندها يحولون الأماكن المهملة كالكراجات وأقبية الأبنية الكبيرة وما شابهها إلى أماكن لأداء الصلوات. وتثير المساجد الحكومية ردة فعل عكسية على النقيض مما هُدف قبل بنائها. (كان الأفضل أن يبنوا منازلاً سكنية بتلك النقود الهائلة التي صرفوها على بنائها) -هذا ما يتفوه به أولئك المؤمنون الذين يتوجهون إلى أحد المساجد الشعبية لأداء الصلوات -مستودع قديم كان يستخدمه أحد السمانين.
وهنالك مساجد تنشط بشكلٍ سري، تُبنى من قبل أعضاء في التنظيمات الإسلامية السياسية المعارضة, وهي عبارة عن غرف كبيرة معزولة عن أعين الفضوليين. وليست هنالك ضرورة للقول بأنه في هذه الأماكن تقوم هذه التنظيمات بأعمالٍ دعاوية مباشرة. وتكون نصوص الخطب في هذه المساجد نصوصاً سياسية، يجري فيها تقييم الأحداث الواقعة في الحياة الاجتماعية الاقتصادية، كما يجري تعميم عدد من الشعارات لهذا التنظيم أو ذاك. وتحمل هذه الخطب، عادة، روحاً معادية للسلطة.
كما تُشكل في المساجد حلقات دعاية وتنوير، تُقرأ فيها المحاضرات وتجري لقاءات مع مناصري هذهِ التنظيمات أو أعضائها العاملين. وهاهو أحد شهود العيان يصف هذه الحلقات المخصصة للنساء, المشكلة من قبل الأصوليين في مدينة تونس وفي مدن أُخرى: تجتمع الحلقة مرة في الأسبوع في إحدى الغرف الداخلية للمسجد، التي لها مدخل خاص بها عادةً. وقد يختلف عدد المثساركين في هذه الحلقات من جلسة إلى أُخرى، إلا أنه وبشكلٍ دائم يكتمل نصاب هذه الحلقة. وتسعى النشيطات في هذه الحلقات إلى استهواء عضوات جديدات. ولهذا الغرض توجه الدعوات، عن طريق البريد أو شفاهياً، إلى المعلمات والطالبات والموظفات وغيرهن. وتدَّعي النشيطات أن هدف الدعوة هو تلاوة القرآن الكريم. تترأس جلسة الحلقة "صاحبة الدعوة " أو "المدرسة"، وغالباً ما يحضر الجلسة الإمام، المفرز من قبل التنظيم. أما مجرى اجتماعات أيام الجمع فهو كالآتي: في البداية يقومون بأداء صلاة العصر. بعدها يتلون آيات مختارة من القرآن، التي تكون متعلقة بأُمور الحياة اليومية والأوضاع السياسية. بعد ذلك، تقوم "صاحبة الدعوة". أو "المدرسة" بالإجابة على الأسئلة. وليس هنالك حد للدعاية الشفاهية التي تستطيع القيام بها مثل هذهِ الحلقات. وفي الغرف التي تجتمع فيها الحلقات، تنتثر النشرات والكتيبات والصحف، التي يمكن لكل عضوة الحصول عليها مجاناً أو بأسعارٍ رمزيةٍ. وتجري محاولات أيضاُ لتحويل كل خلية إلى مجموعة مؤسسة على مبادئ التعاضد والصداقة. لهذا الغرض تقام الصلوات احتفالاً بنجاح هذهِ الطالبة أو تلك, تُجمع أثناءها التبرعات لمساعدة المحتاجات من عضوات الحلقة وغيرها من الأنشطة. إن الهدف الأول للتنظيمات الإسلامية السياسية المعارضة هو تحويل هذه الحلقات إلى خلايا تنظيمية.
وهنالك أسلوب آخر للدعاية الشفاهية وهو تشكيل جوقات موسيقية، تهتم بإنشاد الموشحات الدينية. هذا وقد حصلت الفرق المسرحية الإسلامية على انتشارٍ واسع، حيث كانت تقدم عروضها في قاعات خاصة، وكانت تتألف من الرجالِ فقط. وجميع مسرحيات هذه الفرق كانت تدور حول عرض مختلف المسائل الاجتماعية السياسية انطلاقاً من وجهة النظر الإسلامية.