بعد قراءتي المتمعنة لقانون حمورابي، قفز الى ذهي السؤال التالي : ما السر في تنوع أساليب كتابة هذا القانون ؟ ومن أجل أن أجد الجواب، فقد قمت أولا بتسجيل الملاحظات الآتية :
من المعروف أن نظام دويلات المدن هو الذي كان سائدا في العراق قبل عهد حمورابي. وأن تلك الدويلات كانت تخوض حروبا مستمرة فيما بينها، مما أدى الى إختلال الحياة بكل مرافقها، ولا سيما الأمنية منها، حيث عمت الفوضى، وإنتشر قطاع الطرق واللصوص، وبمرور الزمن سيطرت بابل لا سيما في عهد حمورابي (1797-1750) ق.م على حميع دويلات المدن في العراق القديم . حيث ظهرت دولة موحدة سياسيا ودينيا، ثم أُستكملت بوحدة قانونية بصدور قانون حمورابي المشهور باللغة الأكدية وأن شريعة حمورابي طبقت في جميع في حميع أنحاء الدولة الأكدية، وبذلك أصبحت وسيلة لتوحيد عادات وأعراف السومرين والأكديين .
ولكن السؤال المحير لمن يقرأ نص القوانين المكونة من 282 مادة قانونية تليها الخاتمة يجدها مكتوبة بإسلوب علمي كما هو الحال في القوانين الحديثة وبذلك تجنب الأسلوب الشعري الذي جاء به قانون مانو الهندي وقانون الألواح الروماني، كما يمتاز بوضوح عباراته وصيغة القانون .
في حين أننا نجد المقدمة كتبت باسلوب أدبي رائع أقرب الى الشعر منه الى النثر . تناول فيها حمورابي الأسباب الموجبة التي دفعته الى إصدار قانونه، كما تناول تمجيد الألهة التي اختارته لنشر العدالة فيقول آنذاك أسمياني الإلهان آنو وإنليل باسمي حمورابي . الأمير التقي الذي يخشى الألهة لإوطد العدل في البلاد، ولأقضي على الخبث والشر. لكي لا يستعبد القوي الضعيف . ولكي ينير البلاد من أجل خير البشر. أنا حمورابي الراعي المصلح الورع المنقذ لشعبه من البؤس . الذي ساعد على إظهار الحق . المنتصر على المشاغبين. وضعت القانون بلسان البلاد لتحقيق خير الناس . ثم يستعرض حمورابي كل ألقابه وأعماله العسكرية والعمرانية، وطاعته وتقواه .
هنا شد إنتباهي بأن إستخلاص النسق ألثقافي المضمر في هذه المقدمة والذي تم إختياره لأنه له قابلية جماهيرية شعبية، وهو يقوم بخدمة القيم الإنسانية، وخدمة الإنسان كيفما كان مستواه الإجتماعي والطبقي والعرقي والإثني .
والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل أراد كاتب هذا النص أن يميز بهذه المقدمة بين العمومي والخصوصي .
وفي يومنا هذا عندما تقدمت الدراسات في حقل الثقافة وظهور نظرية الأتساق المتعددة من خلال الربط بين ما هو ثقافي ومجتمعي والبحث عن مجمل العلاقات الموجودة بين النسقين، ضمن رؤية جدلية تفاعلية أو تماثلية . وهذا يعني لدي بأن حمورابي قد إهتم منذ ذلك الزمن السحيق بسوسيولوجيا الثقافة وفق نظرياتنا الحديثة للأنساق المتعددة أو ما نسميه اليوم بالبنية التكوينية .