((طوبى لأنقياء القلوب .. فإنهم يرثون مَلكوت السماوات والأرض))
- السيد المسيح –
عندما نشر العالمان (جون غرندرن عالم اللغويات) و (ريتشارد باندلر عالم الرياضيات) دراستهما بعنوان (The Structure of Magic) في عام (1975م), معتمدين على أبحاث قامَ علماء آخرون منهم (نعوم تشومسكي) و (العالم البولندي غريغوري باتسيون) و (الخبير الفرنسي ميلتون اركسون) و (الدكتورة فرجينيا ساتير) و (الالماني الشهير صاحب المدرسة السلوكية فرتز بيرلز) .. ظانين بأن هذا الكتاب سَجَل ولادة علم جديد سُميّ (بالهندسة النفسية), إدعى أصحابه, بأنه معني بدراسة شخصية الإنسان والتعرف على الأدوات والمهارات التي نستطيع بواسطتها التعرف على طريقة تفكيره وسلوكه وأدائه وقيمه والعوائق التي تقف في طريق ابداعه. ومدعين أيضاً بأنه يتناول مواضيعاً أخرى مثل محتوى الإدراك لدى الإنسان وحدود المدركات: المكان, والزمان, والأشياء, والواقع, والتواصل والتفاهم مع الآخرين, وانسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين, وكيفية إدراكه لمعنى (الزمن).
هذه المواضيع آنفة الذكر كانت قبل أن يكتب الروماني (فيتروفيوس) كتبه العشرة عن العمارة, ولاتزال ضمن الحقول التي يدرسها المعماريون بعناية فائقة ولم يغفلوا يوماً محاولة امتلاك المدخل لمعرفة مبادئ المعلومات عن حقيقة الإنسان. وقد وَعوا تماماً بأنّ السبب الرئيسي وراء إقامة أي بناء هو من أجل مُساعدة الناس في إنجاز غاياتهم وبأقصى فعالية, متأثرين بالعوامل الطبيعية والاجتماعية .. وكانوا يَتحرون عن السلوك البشري داخل وخارج الفراغات المصممة, وكان ولايزال التصميم السلوكي يأخذ في الاعتبار العلاقة المُعقّدة بين السلوك الإنساني الفردي والجماعي في حدود مكان وزمان مُحددين. ولم تكن يوماً لدى المعماريين حلولاً مُطلقة لأي جنس ونوع وزمان ومكان.
ومنذ أن حاولت أي حضارة إيجاد عمارة تناسبها, فكان في مركز اهتمام المصممين المعماريين الانفعالات البشرية في مجموعة محددة من الرغبات. وتدرجها من الحاجة والاحساس بالأمان إلى الاحساس بالإنتماء لمستوى ثقافي أو اجتماعي مُعين. وتترتب هذه الرغبات كذلك حسب السن والمجتمع والبيئة المحيطة, وقد حاول المعماريون أن يفهموا ويُشبعوا الرغبات البشرية المتنوعة كالحاجة للأمن والأمان (الاستقرار والخصوصية) أو الاحتياجات الاجتماعية (الانتماء والمشاركة) .. كذلك إشباع الثقة بالنفس وتحقيق الذات. وبلاشك فأن النتاجات المعمارية الناجحة منذ أن استقر الإنسان وأوجد أولى حضاراته, كانت قد ترجمت الإحتياجات إلى مجموعة من الأهداف التي اهتمت بالرغبات البشرية المتنوعة مثل: الخصوصية الأُسرية (Privacy) وتكوين الصداقات (Friendship Formation) وتكوين المجموعات (Group Formation) والفضاء أو الفراغ الشخصي (Personal Space) والذاتية الشخصية (Personal Status) والملكية (Territoriality) والاتصالات (Communications) والإستكشاف الموجّه (Cue Searching) والأمن الشخصي (Personal Safety) والحرارة الاجتماعية (Social Heat) والإرتباط بالطبيعة (Closeness to Nature).
وكان لكل المعماريين الذين تركوا وراءهم إرثاً ثرياً من النتاجات المعمارية والعمرانية, صورة رسموها لمستقبل الإنسان, وما يرغب أن يكون عليهِ بعد سنوات, أو مُدّة من الزمن .. وكان وراء كُل توجّه وسلوك للمعماريين نية إيجابية, وحلماً بمستقبل أفضل ..
وربما بسبب إنشغالهم الدؤوب في التطبيقات العملية, وانصهارهم بعملهم الإبداعي, لم يتسنى لهم أن يكتبوا أو يسجلوا ((التصميم النفسي المطلوب في العمارة)) كعلم متخصص يدخل, ضمن مجالات عملهم وممارساتهم المهنية.
أما اليوم وقد توفرت ثروة هائلة من المعلومات عن أنواع المباني واستعمالاتها المختلفة وأبعادها وطرق انشائها والمواد والآلات المستخدمة في تنفيذها .. فقد ضلت المشكلة الإنسانية التي تواجه العملية التصميمية والعلاقة بين السلوك البشري والبيئة المحيطة وأثر كل منهما على الآخر, دون أن تنال من المعماريين المعاصرين ذلك الاهتمام المطلوب .. وبذلك نرى أهمية توفر بيانات مدونة على هيئة توصيات تتيح للمصمم المعماري العمل في جوٍ من الفهم والوعي التام, لإنتاج تصاميم ذات فضاءات مدروسة نفسياً وذات تاثير ايجابي ومريح.
وإن تكن بعض النتاجات المعمارية الحالية أو في السابق قد نجحت في هذا المجال, فربما يكون ذلك عن طريق الصدفة.
أتمنى أن يكون للحديث صلة.