أنا واحدٌ من بلايين بلايين البشر، الذين عاشوا ويعيشون على هذه الأرض منذ ملايين السنين... أنا مثل أي إنسان يعيش في القطب الشمالي أو على خط الاستواء، ودرجة حرارة أجسامنا متساوية وهي "37 ْ"، فهلّ لديّ ما يمنعني من التسامح..
عندما يُصبح ظلّ كل شيءٍ مثله، تظهر الحقيقة.. فالباحثون عنها كُثر، والغافلون عنها كُثر، والواصلون إليها هم قلّة القلة.. فتعالوا نفتّش عنها علّنا نجد في أثناء بحثنا عنها، ما يُقرّبنا إليها. وأول مكانٍ يجب أن نبحث فيه عنها - عزيزي الإنسان - هو في ذاتك.. وإذا عرفت حقيقة نفسك أدركت حقيقة الوجود.. وكم هم الناس المدركون لحقيقة أنفسهم؟ وكيف لنا أن نعرف أنفسنا على حقيقتها؟
لقد شغل هذا السؤال الناس منذ فجر الخليقة، فها هو "أرسطو" يقول لكل إنسان "اعرف نفسك"!.. وربما يظنّ بعض الناس أنّه من السذاجة ألا نعرف أنفسنا.. ولكنا لو أمعنا النظر لاكتشفنا أننا فعلاً لا نعرف عن أنفسنا إلا النزر اليسير.. وإذا استطعت أن تعرف حقيقة نفسك، تكون قد وضعت قدمك، وخطوت الخطوة الأولى في سفر العمر، باحثاً عن الحقيقة التي بعد أن تجدها في نفسك، عليك أن تبحث عنها فيمن هم حولك من أهلك وأصدقائك وزملائك وجيرانك.. وبقدر قربك منهم واحتياجك إليهم، تكون مضطراً إلى معرفة حقائقهم.
ثم بعد ذلك عليك أن تبحث عن حقائق الأشياء في جوهرها قبل معدنها، فالجوهر أهم من المعدن، وهو بمنزلة الروح من الجسد لأي شيءٍ في الوجود المادي، فجوهر الذهب ليس معدنه الأصفر، بل ربما قيمته في السوق، أو ندرته، أو قدرته على الحياة الأبدية، على عكس الكثير من المعادن التي تفنى وتصدأ وتضمحل.. فجواهر الأشياء هي حقيقتها التي عليك أن تبحث عنها فيها.
وعليك أن تبحث بعد ذلك فيما تدركه أو تحس به ولكنك لا تراه، كالمشاعر الإنسانية، مثلاً، من حبٍ وكراهية ومُتعة وألم وذكاء وغباء، وغير ذلك من المحسوسات دون لمس، والمدركات دون حس، فإذا استطعت أن تكتشف حقيقتها، فإنّك هنا لا تصل إلى جوهرها، إذ هي من حيث ما هي عليه، جوهر، ولكنك هنا تصل إلى معدنها، فروحها هنا معدنها، وذلك على عكس المحسوسات المادية التي نراها ونلمسها وتدركها.
فإذا استطعت - عزيزي القارئ - أن تصل إلى درجة إدراك حقيقة هذه الأشياء، فإنّك الآن منطلق في سبيل بحثك عن الحقيقة، إلى ما لا تراه أو تلمسه أو تشعر به.. وهنا تصل في بحثك إلى الماورائيات التي لا تمكننا قدرتنا البشرية من الاتصال بها، ولكنها موجودة ومؤثرة فينا وفيما حولنا.. وهناك تكمن الحقيقة الكبرى، أو حقيقة الحقائق التي إن وصلت إليها في بحثك الطويل عنها، تكون قد قطعت الشوط الأكبر في عملية البحث الأكبر عن حقائق الوجود.. وسوف تعترضك الأوهام وأنت تبحث عنها، فإذا وُفّقت فسوف تصل إليها، وإذا خدعتك الأوهام وأضلّتك، فسوف تسقط في ثقبٍ أسود مظلم لا قرار له.
فهل يبقى لديك أخي الإنسان ما يمنعك من التسامح مع الآخرين.