كانت قد أتيحت لي قبل أكثرمن ثمان سنوات فرصة القيام بإجراء حوار مع إمام الشعر العربي المعاصر "يحيى السماوي" والذي نشر في أحد المواقع المحببة لي ..أعيد اليوم نشره عسى أن يطلع عليه من يريد .
هاشم
مقدمة :
ما هي الانطباعات التي تتركها لنا قراءة مُتمعنة في أحد دواوين يحيى السماوي، وأي نوع من الحديث سيثيره لدينا ؟
إن تنوع الانطباعات يبدو متشابكاً للوهلة الأولى، إلى الحد الذي نشك فيه بقدرتنا على أن نجد نظاماً لها، لكن السذاجة في طرح مثل هذه الأسئلة، قد تقود إلى التوصل إلى أجوبة شرط أن تكون الأسئلة مختارة وموجهة إلى إضاءة جانب مهم من تلك المجموعة الشعرية أو زاوية هامة ومؤثرة من شخصية وملكة الشاعر التي يتميز بها عن غيره من الشعراء ..
هل يمكن تفسير ظاهرة الإبداع من داخل الشعر الذي يتحفنا به يحيى فحسب "كالحساسية الخاصة" و"القدرة الانطباعية" و"القدرة الفائقة على البناء" أو "القدرة الفائقة على الحدس" ؟ وهل هذه الأسئلة هي من الكفاية للإجابة على القدرات الإبداعية لمثل هذا الشاعر ؟
عندما صَدَر قبل أكثر من عقد من الزمان كتاب "أسئلة الشعر" للناقد جهاد فاضل، وكان هذا الكتاب على شكل حوارات شتى أجراها الكاتب على مدى سنوات خلت مع شعراء ومذاهب وأجيال شعرية مختلفة، تلاقفته الأيدي برغبة شديدة، وأنا واحدٌ من الذين قرأته لعدة مرات واستمتعت آنذاك بهذه الحوارات التي تمت مع شعراء جيل يسبق شاعرنا يحيى السماوي بعقدين من الزمن على الأقل، وعدد كبيرٌ منهم قد فارق الحياة .. وبعد تطور ملموس لدي في قراءآتي الأدبية والشعرية عدت مرة أخرى قبل بضعة سنوات لأعيد قراءة هذا الكتاب "أسئلة الشعر" ... ولتتولد لدي انطباعات جديدة وتوق لتوجيه أسئلة من نوع جديد للشعراء المحدثين في أنحاء الوطن العربي، معتمداً على بعض الملاحظات التي بدأت أجمعها عن النشر الشعري وتدفقه كماً ونوعاً، وكنت أنوي نشر كتاب جديد عن الحركة الشعرية الحديثة .. ولكن التزاماتي الحياتية والأكاديمية أعاقت كثيراً من طموحاتي، فتوقفت عند أمنياتي تلك .. واليوم عندما نحتفل بعبور شاعرنا يحيى السماوي المتربع على عرش آخر عمالقة الشعر العربي، الستين من عمره ونتمنى له العمر المديد كي تبقى عبقريته تتحفنا بما يجود به من إبداع باذخ، فأنني أعود ببعض الأسئلة التي كنت قد اقترحتها لشعرائنا المحدثين للكشف عن سيكولوجية عبقريتهم ولأني أعتقد بأن تاريخ الشخصية ليس مجرد أكوام مكدسة من آثار الخبرات، بل هو كلُ منظم يُساهم في تنظيم الخطوات التالية ليربط بين حاضر الشخصية وماضيها ومستقبلها، وعلى هذا الأساس استنتجت أن الإطار الأستاطيقي هو أساس ديناميكي للذوق، وأن تاريخ الشخصية هو كلٌ ديناميكي ليس مجرد وحدة ساذجة بسيطة، بل هو وحدة مركبة تضم بداخلها عدة نظم أو عدة أطر على حسب نواحي الأنشطة المختلفة التي تمارسها الشخصية، ومن بين هذه الأطر الإطار الإستاطيقي ... وأنا لم التق من قبل شخصياً بالشاعر المبدع يحيى السماوي ( وهذا نقص واضح في قدرتي على كتابة النقد عنه ) وحتى محاولاتي القليلة للالتقاء به في زياراته الى دمشق، قد باءت بالفشل ... فقد قمت بالحديث مع أحد زملاءه من طلبة مرحلة اليفوعه والشباب ( وهو يقوم بالتدريس الجامعي في نفس الجامعة التي أعمل فيها اليوم ) لأمسك ببعض خيوط هذه الشخصية التي تمتلك الموهبة الظاهرة عليها منذ سنين الصِبا ..
لذلك فأني اليوم واستكمالاً لما جمعته من انطباعات عن المبدع يحيى السماوي أتوجه إليه بالرجاء لإجابتي عن أسئلتي التالية، والتي بالتأكيد ستغني موضوع الشعر، وتضئ الطريق امام الشعراء المحدثين الذين يتلمسون طريقهم للإبداع الشعري .
س42:
ربما أسألك عن آخر قصيدة لكَ، فهل تتذكر عملية الإبداع، هل عاشت في نفسك صورها وأحداثها كاملة قبل النظم ؟ أم هل بزغت عليك وقت النظم فحسب ؟ وإذا كانت قد عاشت معك قبل النظم فهل عاشت بداخلك بشكلها كاملة، وظلت كما هي حتى انتهيت من كتابتها ؟ أم تطورت في حياتها معك قبل الكتابة أو إثنائها وجعلتها تمتلئ وتنضج في بعض نواحيها، وتتضاءل وتتلاشى في نواحي أخرى ؟
ج 42:
آخر قصيدة كتبتها الأسبوع الماضي .. هي عبارة عن أربعة مقاطع من شعر التفعيلة ... سأنقل لك أخي الحبيب تفاصيل دورتهاالزمنية : القصيدة بدأتْ بسؤال وجهته لنفسي .. هذا السؤال هو : نحن جميعا أحد اثنين : " هابيل " أو " قابيل " ولكن : أيهما أنا ؟ فأنا لا أعرف نفسي إن كنتُ القاتل أو المقتول ... حينا أراني عدوّ نفسي فأنا القاتل ... وحينا أراني ضحية الآخر فأنا القتيل .. حدث هذا السؤال وأنا على وسادتي ... الحجرة كانت أكثر عتمة من عباءات نساء الكوفة ( دائما يوجد عند رأسي مصباح يدوي صغير وورقة فارغة وقلم ... كذلك في سيارتي وبنطالي وسترتي .. فقد تعلمت من خلال التجربة أن البيت الشعري حين يفاجئك فإنه سيهرب منك إن لم تدوّنه في نفس اللحظة ... إنه أشبه بغزال وحشي في غابة أو برية .. يتعين على الصياد أن يكون حاملا عِدّته معه تحسّبا لاحتمال رؤية طريدته في أية لحظة ـ فالطريدة لن تنتظره حين يذهب لاستحضار قوسه وسهمه .. ) فوجدتني أكتب : على ضوء المصباح اليدوي وكأنني أخاطبُ نخلة فراتية أو حديقة من حدائق دجلة أو حبيبة من ماء وتراب وضوء :
الأسـى أمـسُـكِ ..
والـحـاضِـرُ نـاعـورُ ضـنـى ..
كلُّـنـا أصبحَ "هابـيـلَ " و" قـابـيـلَ " ..
تـرى :
أيّهُـما كان أنـا؟
عدت إلى وسادتي .. عجزتٌ عن اصطياد عصفور النعاس .. دلفتُ مكتبي .. فتحت الحاسوب لأكتب المقطع في ملف خصصته للجذاذات والأبيات اليتيمة والمقاطع النثرية ( قبل امتلاكي حاسوبا كنت أدون مثل هذه الكتابات في دفتر كشكول ).. وحين بدأت النقر على لوح المفاتيح ، وجدتني أضيف جملا ً شعرية أخرى فأصبح المقطع كالتالي :
الأسـى أمـسُـكِ ..
والـحـاضِـرُ نـاعـورُ ضـنـى ..
أطـفـأ الرعـبُ الـقـنـاديـلَ
وألـقـى بالـفـراشـات ِ
عـلى أرصـفـة ِ الصـبـح ِ ..
وفـرَّتْ من فـضـاءات ِ الـبـسـاتـيـن ِ
العـصـافـيـرُ ..
الـنـهـاراتُ اسـتـحـالتْ دُجَـنـا ..
وأنـا مـثـلـك ِ :
تـابـوتٌ
بـهِ يـرقـدُ جُـثـمـانُ الـمُـنى ..
أشْــبَـكَ الـدربُ
ولا بعضُ سـنـا ..
كلُّـنـا أصبحَ " هابـيـلَ " و " قـابـيـلَ "
ترى
أيّهُما كان أنـا ؟
ربما استغرق المقطع ربع ساعة .... عدت إلى سريري .. بقي النوم معلنا ً العصيان على أجفاني .. غادرت الحجرة تجاه الحديقة لأدخن ... دخنت سيجارتين .. تذكرت رسالة إيميل وصلتني صباحا ضمن مجموعة بريدية تفيد بنجاح محافظ بغداد باستعادة نحو ستة مليارات دينار عراقي من أصل مبلغ يزيد على خمسة عشر مليار دينار اختلسه موظفو المحافظة ( هذه سرقة صغيرة طبعا، فمحافظة بغداد ليست وزارة نفط أو دفاع أو داخلية وبقية الوزارات ذات الميزانيات المالية الضخمة ) ... فوجدتني أمام سؤال جديد : متى يشبع جياع الشعب إذا كان نواطير البستان لصوصا مع أنهم حتما قد أقسموا بالله وبالقرآن أن يصونوا المال العام ؟ عدت إلى مكتبي لأكتب بضع جمل خطرت في ذهني هي تحديدا :
كلُّـهـمْ أقـسَـمَ
أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـال ِ
باسـم ِ الأحـدِ :
سـادِنُ المـحـراب ِ ..
والـنـاطـورُ ..
ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ ..
قـاضـي الـعـدل ِ والشَّـرْع ِ ..
إمـامُ المـسْـجِـد ِ..
فـلـمـاذا ازدادت ِ الــفـاقـة ُ
واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـد ِ ؟
حين عدت إلى سريري وجدت زوجتي وبناتي وابني يتهيأون لصلاة الفجر .. صلينا جميعا ... نجحت بإقناع أجفاني أن تُسدِل ستائرها على الأحداق .. استيقظت عند مشارف الضحى ... ثمة مخبز أفغاني يقع على مبعدة نحو عشرين كيلومترا عن بيتي، يبيع خبز التنور الذي يشبه خبز أمهاتنا الطيبات ... لي بهذا الخبز شغف كبير جعلني لا أستعذب غيره منذ افتتاح المخبز قبل نحو خمس سنين ... كنت طيلة الطريق أردد مع نفسي ماكتبته أمس ... فجأة شعرت بضيق التنفس ... هي بداية نوبة الربو التي اعتدتها حين أفرط في التدخين ـ وأمس دخنت نحو ثمانين سيكارة ... وجدتني أقول شيئا من الشعر مع نفسي ... ركنت سيارتي عند حافة الطريق وكتبت :
أيـهـا الـقـلـبُ الـذي
ثـلـثـاهُ مـن مـاءِ الـفـراتـيـن ِ
وثـلـث ٌ من رمـادِ الـنـخـل ِ
أو طـيـن ِ الـبـلـدْ :
زَبَدٌ أنت َ ..
فماذا يخسرُ البحرُ
إذا جفَّ الزبدْ ؟
طـعـنـة ٌ أخـرى :
وتـشـفـى
مـن عـذابـاتِ الـجـسـدْ
في المساء أعدت قراءة ماكتبته ... قرأتها كقارئ ... في اليوم التالي قرأتها مرتين ... الأولى كشاعر والثانية كناقد ... أجريت تعديلا وحذفا ... قرأتها لزوجتي ولابنتي الشيماء ( هما دائما أول مَنْ يقرأ قصائدي ـ أيا ً كانت القصائد، غزلية أو سياسية ) ... عند انتصاف الليل أعدت كتابة المقاطع من جديد فوجدتني أضيف مقاطع أخرى وأنا أنقح ماكتبت .. عند الفجر وضعت للمقاطع اسما ً ثمّ أرسلتها إلى صديقيّ الشاعر محمد البغدادي والناقد حسين سرمك في دمشق وكانت كالتالي :
هوامش من كتاب الحزن العراقي
(1)
الأسـى أمـسُـكِ ..
والـحـاضِـرُ نـاعـورُ ضـنـى ..
أطـفـأ الرعـبُ الـقـنـاديـلَ
وألـقـى بالـفـراشـات ِ
عـلى أرصـفـة ِ الصـبـح ِ ..
وفـرَّتْ من فـضـاءات ِ الـبـسـاتـيـن ِ
العـصـافـيـرُ ..
الـنـهـاراتُ اسـتـحـالتْ دُجَـنـا ..
وأنـا مـثـلـك ِ :
تـابـوتٌ
بـهِ يـرقـدُ جُـثـمـانُ الـمُـنى ..
أشْــبَـكَ الـدربُ
ولا بعضُ سـنـا ..
زمـنٌ بـاتَ بـهِ الشـوكُ
يُـعـيـبُ السَّـوسَـنـا ..
تـصـرخُ الـمـسْـغـبـة ُ الانَ
بـنـا :
هـزُلَ الـخـبـزُ
وجـوعـي سَـمُـنـا ..
مـثـلـكِ الانَ
أُسَـمِّـي غـربـتي أهلا ً
وجُـرحـي وطـنـا ..
كلُّـنـا أصبحَ " هابـيـلَ " و " قـابـيـلَ "
ترى
أيّهُما كان أنـا ؟
(2)
لا تـقـولـي إن َّ جـرحَ الـيـوم ِ
يـشـفـى فـي غـد ِ
كلُّـهـمْ أقـسَـمَ
أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـال ِ
باسـم ِ الأحـدِ :
سـادِنُ المـحـراب ِ ..
والـنـاطـورُ ..
ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ ..
قـاضـي الـعـدل ِ والشَّـرْع ِ ..
إمـامُ المـسْـجِـد ِ..
فـلـمـاذا ازدادت ِ الــفـاقـة ُ
واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـد ِ ؟
ولـمـاذا
كـلَّـمـا يُـوعِـدُ بـالـخـبـز ِ
أمـيـرُ المـؤمـنـيـن َ
ازدادَ جـوعُ الـبـلـد ِ ؟
(3)
أيـهـا الـقـلـبُ الـذي
ثـلـثـاهُ مـن مـاءِ الـفـراتـيـن ِ
وثـلـث ٌ من رمـاد الـنـخـل ِ
أو طـيـن ِ الـبـلـدْ :
طـعـنـة ٌ أخـرى
وتـشـفـى
مـن عـذابـات الـجـسـدْ
(4)
ألـفُ " أنـكـيـدو " بـدار ِ الـعَـجَـزةْ !!
مـا الـذي يُـغـويـهِ بـالـرمـح ِ
ولا ثـمّـة َ " كلكامشُ "
يـأتـيـه بـ " عـشـبِ الـمُـعـجـزةْ " ؟
وأنا أكتب القصيدة لأضيفها إلى مجموعتي " لماذا تأخرت ِ دهرا ؟ " وجدتني أضيف إليها مقطعا ً خامسا كنت كتبته من أيام وقد أضعته فتذكرت أنني نسيته في سيارتي ... كنت كتبته ذات أرق على البحر .. هذا المقطع هو :
جئـتـك ِ الـلـيـلـة َ عـصـفـورا ً
طـريـدَ الـرَّوض ِ
مـهـدورَ الـمـواويـل ِ ..
افـتـحـي عُـشَّـكِ
لـلـقـادم ِ مـن كـهـفِ الـمَـراثـي ..
مـرَّ عـامـانِ من الـصَّـمـتِ
وعـامْ
ومُـغـنّـيـكِ حَـبـيـسُ الـعَـطـشِ الـصُّـوفيِّ
لا اليـنـبـوعُ يُـرويـهِ
ولا كأسُ نـمـيـر ٍ ومُـدامْ
جـئـتـكِ الـلـيـلـة َ :
طفـلاً
شاخَ مـن قـبـل ِ الـفِـطـامْ
ضـائـعـا ً أبـحـثُ عـني
بـيـن أنـقـاضي
ومـا خَـلَّـفَ أمـسـي من ركـامْ
أيـن فـردوسُـكِ مـني ؟
دورقي تملأهُ الـريحُ
وكأسي فـاضَ صـمـتـا ً
والـرباباتُ حُـطـامْ
لا الـنـدى يـلـثـمُ أعـشـابـي
ولا يُـغـوي فـراشاتِ صـبـاحـاتـي
أقـاحٌ وخُـزامْ
عـازِفـا ً عـنْ عَـسَـل ِ الـلـثـم ِ
وتُـفّـاح ِ الـكـلامْ
هـاربـا ً من زحـمـة ِ الـصـمـتِ
إلى ثـرثـرة ِ الـمـوج ِ
وفـانـوسِ الـظـلامْ
أيـنَ شـطـآنـكِ مـنـي ؟
صـادِقـا ً كـانَ سَـرابُ الـنـخـل ِ ..
والـكـاذِبُ :
نـهـري .. والـغـمـامْ !
س43 :
أذا صادف أنها تطورت وتغيرت، فهل تمارس أنت عملية تغييرها ؟ أم تشعر بأن الأمور تجري بعيداً عن متناول توجيهاتك وكل ما هنالك أنك تشهد آثار التغيير ؟
ج 43 :
الكثير من قصائدي أجري عليها تعديلات حين أبدأ إعدادها لطبعها في ديوان ... كل قصيدة جديدة أتركها بضعة أيام نائمة في درج مكتبي أو على سرير الحاسوب .. ثم أوقظها بعد بضعة أيام لأقرأها كناقد فأحذف ما أراه جديرا بالحذف أو التغيير، وقد أضيف إليها أحيانا ( لكن الغالب هو الحذف أو إعادة صياغة الجملة الشعرية ـ والتأكد من أنني لم أأكل نفسي ـ أقصد : التأكد من أنني لم أقل في هذه القصيدة نفس ماقلته في قصائدي السابقة ) .
س44 :
هل لديك عادات تمارسها ساعة النظم أم لا ( كأن تبحث عن جو خاص، أو استعمال قلم خاص... أو ...إلخ )
ج 44 :
لاثمة عادات أو طقوس ياصديقي الشاعر ... حدث يوما في مدينة جدة أنني كنت أقود سيارتي ومعي زوجتي ـ كنا ذاهبين لشراء باذنجان وبعض الخضار، كان سيدي وشيخي الجواهري الكبير قد طلب طبخة، إذ هو يحبّ أكلة عراقية معروفة نسمّيها في العراق " تبسي الباذنجان " .. وكان مقررا أن نذهب به وبنجله الدكتور كفاح وكريمته الدكتورة خيال وزوجها الفنان صباح المندلاوي مساءً إلى منتدى الإثنينية لحفل تكريمه ... ولم أكن قد أعددت كلمة أو قصيدة خاصة به ـ فإذا بثلاثة أبيات بدت لي كما لو أنها مكتوبة أمامي فأمليتها على زوجتي وأنا أقود السيارة ... كانت الأبيات هي :
أيُجارى إذا أطل َّ الشهابُ ؟
كيف يمشي مع الإياب ِ الذهاب ُ ؟
أنا أدري بأنني محض ُ حرف ٍ
يُتهجّى .. وأنت أنت الكتابُ !
يا أبانا وأنت للطيب ِ طيبٌ
وخضابٌ .. وأنت للمجد ِ بابُ
حتى إذا جاء موعد الحفل التكريمي كانت الابيات الثلاثة قد غدت قصيدة كان الجواهري أول المعجبين بها ..
كتبتتُ على علب سجائري ... وعلى راحة يدي ... وفي معسكر رفحاء كتبت على الورق المقوّى .. وأتذكر أنني في صباي حين كنت أساعد أبي في حانوت البقالة، كنت أكتب خربشاتي على الأكياس الورقية ...
س45 :
أتشعر بوجود صلة بين أحداث حياتك الواقعية وبين ما يرد في قصائدك من أحداث وصور؟ وإذا كانت هناك صلة تحسها فلتحدثنا اذاً عما تشعر به إزاء ما يرد عليك من صور وأحداث تضمنها أعمالك، أتشعر من أين تأتي وكيف ؟
ج45 :
قبل سقوط الصنم ، كثيرا مايُفزعني كابوسٌ مرعب لا أدري لماذا يتكرر في منامي بأشكال عدة جميعها تنتهي بأن النظام ألقى القبض عليّ وأنني سأشنق فأستيقظ متعرق الجبين ألهث عطشا ... هذا الكابوس لايتركني شهرا دون أن يفاجئني بزيارته الوحشية .. ربما لأنني سبق ووقعت في مديرية أمن المثنى على تعهد بإعدامي في حال مارست العمل السياسي فإذا بي بين أوائل الذين حملوا السلاح في الانتفاضة الجماهيرية ... نعم أخي الشاعر أبا صارم ... للأحداث التي مررت بها صلة بالكثير من قصائدي ... ليس سهلا على الإنسان أن يغسل شرطيّ أمن ٍ قذر وجهه بالبصاق وأن يجعل من وجهه كيس ملاكمة أو كرة قدم ... وليس سهلا على عريس يمضي أوّل أيام شهر العسل موقوفا ً في مرحاض مهجور ليخرج بعد أيام مخرّز الجسد ... وليس سهلا على مدرّس ٍ أحبّ وأخلص لمهنته وكان باعتراف مديرية التربية من أنجح المدرسين في مادته حتى أن الإشراف التربوي كان يكلفه بإقامة دروس نموذجية في طرق تدريس اللغة العربية يحضرها مدرسو ومدرسات المحافظة، فإذا بالأوغاد ينقلونه وظيفيا إلى بائع طوابع كي يسقط العذر القانوني بعدم سوقه للخدمة العسكرية ( كان المدرسون من مواليد 1949 لاتشملهم الخدمة العسكرية كجنود احتياط ) فتم سوقي إلى جبهات القتال في قادسية العار لأبقى ثمان سنين لأنني رفضت الانتماء لحزب البعث ... وليس سهلا على الانسان حين يؤتى بأمه وأبيه وأشقائه وشقيقاته إلى مديرية الأمن فيتم تهديدهم بالتسفير إلى إيران ـ كنوع من التعذيب النفسي لي ـ مع أن والد أبي كان عريفا في الجيش العثماني في قسم " الطوب ـ أي المدفعية ـ لذا كان لقب والدي عباس الطوبجي ـ بل وأبي كان قد خدم في الجيش قبل أن يُخلق صدام حسين الذي هو أساسا كان متخلفا عن تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية ولم يدفع حتى البدل النقدي .. وليس سهلا على الانسان البريء أن يُصفع أبوه أمامه كما حدث لي حين زارني أبي في معاونية شرطة الحي الجمهوري وكنت موقوفا بسبب مقال نشرته في صحيفة طريق الشعب التي كنت أعمل فيها في وقت كانت الجبهة فيه قائمة ـ وكان المقال غير سياسي بقدر ماهو وطني يُشيرُ إلى خطأ يجب تلافيه درءا ً لمفسدة .. فهو بعنوان " مدينة للألعاب في السماوة ..." كشفت فيه أن هذه المدينة هي مدينة قمار تُدير فيه طاولات القمار نادلات مصريات شبه عاريات وليست مدينة ألعاب ..
يقينا ً أن مئات آلاف العراقيين عاشوا مثل هذه المعاناة بشكل وآخر ... وبسبب هذه المعاناة فإن العراقيين يبدأون الشيخوخة ربما قبل وصولهم سنّ العشرين من العمر ! فالعراق يحول في ظل نظام صدام حسين إلى تابوت على هيئة وطن ... لا أعتقد أن التاريخ سيشهد ساديّا مثله ... كان يتلذذ برؤية الدم ... ولعله الرئيس الوحيد في العالم الذي كان يأمر جلاديه بتصوير ضحاياه وهم يُعذبون وتقطع أوصالهم ـ كما في هذا الشريط المصور الذي عُثِر عليه في أحد قصوره ( أرجو من الأحبة الذين يرغبون برؤية هذه المشاهد البشعة عدم السماح للأطفال برؤيته .. )
س46 :
أترى نهاية القصيدة قبل أن تبلغ هذه النهاية ؟ وإذا كان الأمر كذلك فهل تراها واضحة أم لا، وإذا لم تكن تراها فما الذي يحدد لكَ أنك ها هنا قد بلغت النهاية ؟ وإذا كنت تراها فهل تنتهي القصيدة حيث كنت ترى ؟
ج 46 :
القصيدة تولد خديجة ً غير كاملة النمو ( هذا ما أشعر به بالنسبة لي على الأقل ) .. أما نهايتها فلا معرفة لي بها .. حين أكتب أكون أعمى والقصيدة هي عصاي .. كما لا أعرف عنوانها .... تبقى القصيدة قابلة للنماء طالما شعرت أنّ صراخي المكتوم لم يهدأ، أو أن في عينيّ دمعا يجب أن أتخلص منه بذرفه على الورقة ... قد أفاجئك باعترافي أنني أذرف دمعا حين أكتب القصيدة أكثر عشرات المرات من الحبر الذي يذرفه قلمي ... مشكلتي سيدي الأخ والصديق الحبيب أنني عنيد ... عنيد مثل بغل جبليّ حَـرِن ... والشعر أكثر عنادا، وهذا سبب وجعي عند كتابة القصيدة ... لكنه وجع أعذب من العافية . .. وبانتهاء كل قصيدة أشعر بفرح طفولي جميل ..
بعد أن طرحت هذه الأسئلة متوجهاً بها لشاعرنا الكبير كنت متأكدا بأن أجابتشه ستكون بإسهاب واسع ( بحيث يغطي على الدراسات المكتوبة عنه باحتفاليتنا به لبلوغه الستين )، لغزارة ما يملك من براعة أدبية في كافة النصوص التي يُصيغها والتي عودنا عليها في تعليقاته على بعض القصائد أو في رده على التعليقات الواردة على قصائده ..