يمكن لنا ان ننظر للابداع كظاهرة معقدة ذات وجوه وأبعاد متعددة، وبأنه الوحدة المتكاملة لمجموعة العوامل الذاتية والموضوعية التى تعود الى تحقيق انتاج جديد وأصيل وذي قيمه من قبل الفرد أو الجماعة، ويمكن وصفه بأنه العملية التى تعود الى انتاج يتصف بالجدة والأصاله والقيمه من اجل المجتمع . والمبدع فى هذا المخاض يتبع سلاحين هما الذاكرة والشجاعة . واذا كانت فعالية الانسان الفكرية ليست سوى البنية الفوقية الهشة لظاهرة لا تنتمى الى الطبيعة العقلية، وانما تنتمى الى الطبيعة الاجتماعية، فأنه سوف لا تعود هناك دلاله للفكرة الابداعية، الا من خلال قابليتها للتوصيل، ولاجتياز الخطاب البشري .
ويتفق ارتقاء الفنون فى كل المجتمعات الدينية والسياسية، والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وايضا التربوية، وعندما نتتبع تطور الفنون ومنها الشعر، فأننا نتتبع طموحات الشعوب وأحلامها ورؤيتها ومعتقداتها الاساسية او فلسفتها العامه حول الكون والإنسان والحياة. و لم يكن الفن فى الكثير من الاحيان غاية ً فى ذاته، بل هدف لفهم الحقيقة الكلية، وقد كانت القواعد المحدودة للاشكال الثلاثة من الشعر الملحمي، والدرامي والغنائي - كما حللها أرسطو فى "كتاب الشعر" أمثلة حية على ما إعتقده الفلاسفه الاغريق حول الفن . وقد اشار بعض مؤرخي الفن الى أن هذه الافكار الفنية الخاصة بهؤلاء الفلاسفة هى ذاتها بعض ما أدى الى ظهور عصر التنوير الاوربى مع التغييرنوعا ما فى نقاط التركيز، فالجمال كان ينبغى أن يُستخلص من الطبيعة، من المادة الخام التى يكون الجمال كامنا فيها، وعن طريق إستكشاف المنطق والعقل لهذه المادة الخاصة بالجمال . وقد سيطرت هذه النظرة على الفنون فى العالم الغربى لفترة طويلة من الزمن، ومنها الشعر (الذى اعتمد على الاساطير كمادة خام). وقد تمسكت بهذه النظره المسيحيه الأولى . فى بدايتها والتى اعتقد اصحابها ان الفنون غير ذات نفع او فائدة . وتم تحطيم الكثير من التماثيل والاعمال الفنية، وحدثت أشياء مماثلة فى ظل ثقافات أخرى وديانات أخرى فى كثير من أنحاء العالم القديم، وكانت الفكرة السائدة فى كثير من الأحيان، ان هذه الاعمال الفنية تستشير الغرائز المضادة للعقل والإاتزان، كما انها تحمل نوعا من المشابهة او حتى المحاكاة لافعال الله او ذاته.
على أي حال لابد من العودة الى سؤالنا الاول حول جدلية المبدع والمتلقى .. ولنقل بأن افضل الاعمال الفنية هى تلك التى تشتمل على توازن خاص بين التجسيد والتجريد، او بين الإنفعال والعقل على نحو ٍخاص، وقد برز من المنظرين فى هذا المجال "جاردنر" والذى إهتم بالجانب الإنفعالى من الخبرة الفنية . على الرغم من ان نظريته تقوم على أساس معرفى، وقد أشار الى التغييرات الانفعالية التى يمر بها المتلقي للعمل الفنى تغيرات جوهرية . اما" جورمان " فقال ان الانفعالات تنشط على نحو معرفى، مما يعنى انها تكون وسائل لمزيد من الفهم . ويشترك" برلين "و "جاردنر" و"جومبريتش" و"فيتز" و "جودمان" و"مارتنديل " وغيرهم فى النظرة للفن - وللاعمال الفنية - باعتباره نظاما من المعلومات، وإن المتلقى ينبغى أن يكون قادرا ً على تذوقه أو تفضيله، وكثيراً ماتشير المناحى المعرفية الى تلك المهارات الخاصه التى ينبغى توافراها لدى المتلقي، حتى يقوم بالنشاط الماهر المسمى ب((القراءة)) للعمل الفنى . ومهارة القراءة شرط اساس مسبق للاستمتاع بالفنون والأدب، وهى كذلك أنموذج عام يكون مفيدا في التذوق لكل أنواع الفنون .
وهنا نؤكد عل اهمية تكوين علاقات وثيقة وممتعة وتخيليه بين الفنان والشاعر والاديب من جهة والمتلقى من جهة اخرى، وبين الموضوعات الفنية ذات الصله الخاصة بنشاط الابداع او نشاط التلقى من ناحيه أخرى .
فى ضوء كل المناحى المعرفية يكون المتلقى الذى تتوافر لديه خلفية فى فهم المعلومات الجمالية هو القادر فقط على تذوق الاعمال الفنية . وتكون هذه المعلومات محددة فى ضوء العلامات والرموز والتمثيلات والصور التى تظهر فى عمل فنى معين، ومرتبطة كذلك بإسلوب فنى معين أو فترة فنية معينة، فالمتلقى الذى توجد لديه مخططات معرفية مملوءة بالتفاصيل المناسبة (التمثيلات المعرفية) الخاصة بعمل فنى معين أو أكثر هو فقط الذى يكون قادرا على تذوق هذا العمل وتفضيله .
ومن خلال تفهمنا للجوانب الانفعالية والمميزة لها، فاننا نجزم بأن الاتجاه الجمالى فى الفن والأدب يحتاج الى نوع من الإهتمام الجمالى طويل الامد، وكذلك الى مستوى مرتفع من التركيز . وخلال عملية التذوق يصبح الإندماج الجمالى نوعا من التركيز القائم على أساس التروي والتمهل والتحكم، لا على أساس الذوبان، أو الاندماج التام . مع وجودالانفعال والشعور هناك عمليات اخرى تلعب دورها فى إضاءة الموضوع الجمالى مثل :المعرفه، والاستدلال، والتحليل، والتصنيف، والتكوين المفاهيمي . فهذه العمليات هى شروط أولية لحدوث الفهم ، او التفهم، او الوعى الكامل بالعمل الفنى . ويتطلب التذوق المناسب للعمل الفنى نوعا من الإنتباه للخصائص الحسية والتعبيريه او الإنفعالية وكذلك الخصائص البنائية او الشكلية للعمل الفنى، كما يتطلب ايضا نوعا من التفهم التكاملى (المتزامن) للكل الجمالى الذى يتم تشكيله، وليس فهما منطقيا متتابعا للعناصر المفضله الموجودة داخله فقط . لقد كانت الاشكال والمدارس والافكار الفنيه، التى ظهرت خلال القرن العشرين حافزا لظهور أفكار عديدة مماثله فى مجال التربيه الفنيه، وساعد ذلك كله على تكوين تصور مشترك للفن باعتباره تعبيرا إبداعيا عن الذات . وقد صاغ "جون ديوي" وجهة نظر مهمة كانت ثوريه فى وقتها، لإنها أعادت صياغة العديد من الافكار التربوية السائدة . (فقط أشاد" ديوي" الى ضرورة ان يجرى التعامل مع الاطفال باعتبارهم متعلمين يتميزون بالنشاط وتتمركز طاقاتهم الإبداعية حول ذواتهم وحول العالم، وذلك فى مقابل التصور التقليدى للطفل الذى كان ينظر اليه على انه راشد مُصغر وغير كامل . فى ضوء التصورالتقليدى جرى التركيز على التعليم الأصم وعلى عمليات التلقين والحفظ والاسترجاع وفرض القواعد ان أساليب التعليم في التربيه التقدميه والمتأثرون بها،أشاروا الى أهميه الإستكشاف النشط للمعلومات، والمشاركة فى الجهد، أي التفاعل بين المعلم والتلاميذ خلال العمليه التعليميه وخلال إتخاذ القرارات المناسبة بشأنها . وتجلت هذه الجهود فى إعادة صياغة العملية التربويه وظهور طرائق جديدة للتعلم والتعليم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر التعلم عن طريق التفريغ أو التنفيس الإنفعالى لدى الملتقي والتى ترتبط بدورها بدرجه كبيرة بفكرة التطهيربالمعنى الأرسطي ...وبهذا فأن المتلقى يوحد ذاته بنفسه مع الفنان خلال النشاط الخاص والتذوق او التلقي، ومن ثم يصبح بشكل ما معيدا للابداع .