خمس مواد تكفي لتأكيدعدالة شريعة حمورابي

2009-01-14
في ظل رغبة العراقيين في تدعيم سلطة القانون
خمس مواد تكفي لتأكيد أهمية وعدالة شريعة حمورابي



في //api.maakom.link/uploads/maakom/originals/1df30cbc-b7f3-46f7-be2c-a4c47becc6e0.jpeg هذه المرحلة التاريخية التي نسعى فيها الى تدعيم سيادة القانون التي ابتعدنا عنها منذ الغاء الدستور الدائم في العراق, نحن بحاجة ماسة الى كل ما يعطينا دفعة معنوية ويذكرنا بأننا ورثة أولى الحضارات وأقدم القوانين المدونة في العالم. وهذا يدعونا الى توحيد صفوفنا وحل خلافاتنا في ظل سلطة القانون بدلاً من العنف لتحقيق أمن شعبنا وإستقراره. ومن هنا يأتي دورشريعة حمورابي وأهمية التحدث عن الأحكام المتطورة فيها من منظور العصر والمنطق الحديث.
ومن المعلوم بأن شريعة حمورابي, التي ظهرت قبل أربعة الاف سنة, تضمنت أحكاماً عديدة تقترب وبصورة تلفت الأنظار من تصورنا الحديث للعدالة, في وقت كانت فيه المجتمعات الانسانية في أطوار نموها الأولى بدائية النشأة ومحصورة في نطاق بيئتها. وهي تعتبر, الى جانب الكتابة والعجلة, من أعظم الإنجازات الحضارية التي قدمها سكان بلاد الرافدين للإنسانية.
والذي يستحق الذكر ويثير إهتمام العلماء والمختصين أن هذه الاحكام المتطورة احكاماً عادلة ومن مظاهر المجتمع المتحضر , وأن بعضها لم تتوصل لها المجتمعات المتقدمة إلا قبل زمن قريب أوما زالت تسعى جماعات بشرية لنيلها الى يومنا الحاضر.
وليس الهدف هنا التطرق الى جميع هذه الأحكام . وإنما سأكتفي بالإشارة الى عدد منها والتي أرى انها تكفي لوحدها كشاهد على العدالة في التشريع والرقي الحضاري في روح القوانين العراقية القديمة لأجل أن نستلهم منها العبر.
ومن المناسب أن أشير في البداية الى أن الملك حمورابي استطاع أن يوحد ممالك بلاد الرافدين (التي تعني في الوقت الحاضر العراق وأجزاء من محيطه) وترصين شئون مملكته المترامية الأطراف. وبعد فترة من تقلده العرش عام 1792 قبل الميلاد, أصدر شريعته لفرض النظام ونشر العدالة في البلاد. ويبدو أنه قد أدرك مبكراً أن سلطة القانون هي الأساس الذي تقوم عليه الدولة, وأن العدل أساس الملك, وهوأفضل وسيلة لإستقرار الحكم.
وإحتوت شريعة حمورابي على نواحي مختلفة من الحياة مدنية وجزائية, مثل أحكام البيع والإجارة والمداينة والرهن, وعقوبات الجرائم. كما أنها تضم جوانب من قانون الأحوال الشخصية ونظام الأسرة, بالأضافة الى أحكام التجارة والمعاملات المالية.
ومن الأحكام المميزة في شريعة حمورابي والتي تثير الأهتمام ما نصت عليه المادة 148 من أنه "ليس للزوج أن يطلق زوجته المريضة بل عليه أن يعيلها طالما هي على قيد الحياة, وهذا لا يمنع أن يتزوج بأمرأة أخرى". أن هذا النص, كما هو واضح , له معاني إنسانية راقية ويؤكد مكانة المرأة في ذلك العصر ومدى الحرص على صيانة حقوقها. ولم تدع القوانين الرجل يتصرف بزوجته كأنها بضاعة يتخلى عنها متى ما يشاء, ويتركها اذا مرضت لتبقى بلا معيل, فهذا منتهى الظلم بل أصبح ملزماً بابقائها كزوجة مكرمة في بيتها يسهر على رعايتها وتحمّل إعالتها, ولم يمنع ذلك من أن يرتبط بأمرأةٍ ثانية.
وهو فعلاً حُكم عادل ومنصف ويفرض التعامل الإنساني والمتحضر مع الزوجة مما يدعو للفخر, ويؤكد حقيقة أن أحكام الأسرة وحقوق المرأة من أهم المميزات الحضارية لشريعة حمورابي التي تكشف لنا بأن الرجل لم يعد الحاكم المطلق في اسرته . فقد أصبحت لأول مرة تصرفات الزوج, الذي كان ينهى ويأمر بلا حدود, خاضعةً لرقابة قضائية وحصلت الزوجة حقوقاً عديدة بعضها لم تنلها المراة الغربية إلا بعد عهود طويلة من الزمن. ومن ذلك حق الزوجة في طلب الطلاق من زوجها, وحق الزوجة في التجارة وتملك المال (اي حقها في ذمة مالية مستقلة) , وحق الأرملة في إسترداد جهازها والبقاء في بيت زوجها والحصول على حصة من ثروته, وهي حقوق لم تكن موجودة سابقاً, بل كانت معظم الشرائع في الحضارات القديمة كاليونانية والهندية وشرائع بلاد فارس تقلل من شأن المرأة وتهدر انسانيتها.
ومن النصوص المتميزة أيضاً والتي تثير الأعجاب ما نصت عليه المادة (23) التي جاء فيها "أن من وقع ضحية السرقة في حالة عدم ضبط الجاني واسترداد المسروقات يعوض من قبل أهل المدينة والحاكم الذي وقعت السرقة على أرضه". وبأعتقادي أن هذا النص يعد انجازاً رائعاً وينطوي على قدر كبير من العدالة, لأنه يهدف الى حماية الأفراد الذين يتعرضون لضرر جسيم دون تقصير منهم وتعويضهم عما أصابهم حتى لا يتحملوا وحدهم أعباء هذا الضرر الذي يجب أن تتحمله الجماعة بأسرها ممثلة بالدولة كنوع من التأمين.
واننا هنا أمام نوع متقدم من أنواع مسئولية الدولة عن الضرر الذي يصيب مواطنيها دون خطأ منهم نطلق عليه المسئولية الاجتماعية للدولة. وهي مسئولية قائمة بغير خطأ من قبل الدولة, وتعتبر أرقى أنواع مسئولية الدولة وأحدثها تطبيقاً, حيث انها تلتزم في هذا الصدد بتعويض المتضررين ليس على أساس الخطأ الحاصل من جانبها وانما على أساس التضامن الإجتماعي في مواجهة المخاطر أو تحمل التبعة. وهذا ما يدعو للفخر خاصة اذا ما علمنا بأن الدولة في الغرب والى تاريخ قريب لم تكن تسأل عن الضرر الذي يصيب الأفراد مهما بلغت جسامته حتى لو أنها ارتكبت خطأ سبب هذا الضرر.
ومن الأحكام التي تدعونا للفخر أيضاً ما نصت عليه المادة 175 والتي بموجبها يحق للعبد أن يتزوج امرأة حرة ويكون أبناؤهما أحراراً. وفي هذا النص معاني إنسانية عديدة منها إنصاف العبيد, الذين كانوا من أسرى الحرب أو من بين الأحرارالذين أفلسوا, واعطائهم حق الإقتران ببنات من طبقة الأحرار. كما يعني النص أن الأبناء يرثون الحرية عن أمهم ولا يرثون العبودية عن أَبيهم, بحيث لايحق لصاحب العبد أن يطالب بأبناء عبده من السيدة الحرة عبيداً له بل يكونون أحراراً . وهذه خطوة جريئة نحو تحرير العبيد ومرونة التعامل معهم في الوقت الذي كان التمايز الطبقي هو السائد. ولا غرابة من ذلك في شريعة حمورابي لأن كثيراَ من أحكامها تُخفَف من الحالة القاسية للعبيد, وكان من الممكن فك رقابهم أو تبنيهم, وهذا يدل على مدى النضج الحضاري لمثل هذه الأحكام, ويدل أيضاً على نظرة متقدمة تعبرعن مدى مكانة المرأة في بلاد الرافدين والرغبة في تحقيق العدالة التي هي حلم أي مجتمع.
ومن النصوص المتطورة والتي يمكن ذكرها هنا أيضاً ما نصت عليه المادة (207) التي تفيد بأنه لو ضرب رجل رجلاً آخر أثناء شجار وتسبب في موته فعليه أن يقسم يميناً بأنه لم يتعمد في موته ويدفع نفقات الطبيب, وإذا كان الذي توفي رجلاً حراً فعلى الضارب أن يدفع نصف مانة من الفضة (المانة 497 غرام فضة). ويكشف لنا هذا النص والنصوص الأخرى المماثلة له احدى الخصائص المتميزة لاحكام شريعة حمورابي التي تؤكد أنه لإول مرة في التاريخ تعلن الدولة أنها هي التي تتصدى للجريمة وتعاقب الجاني على عدوانه, في وقت كانت فيه المجتمعات بدائية وقائمة على الثأر والإنتقام الفردي من الجاني بدعم من الأهل والقبيلة الذي كان الوسيلة الوحيدة المتاحة للمجني عليه, والذي كان في أغلب الأحيان مبالغاً فيه. ويفيد ذلك بأن الجريمة لم تعد مجرد نزاع شخصي بل أصبحت اعتداءً يقع على المجتمع بأسره, وعدم السماح للفرد أن يقتضي حقه بنفسه بل هو ملزم بعرض منازعاته على السلطة العامة. وهذا من مظاهر المجتمع المتحضر الذي يسعى لتحقيق الأمن والأستقرار.
كما يكشف لنا النص متقدم الذكر عن معاني أخرى مهمة ومنها الأخذ لأول مرة في التاريخ بالتعويض المادي للجروح والإيذاء والقتل كبديل للعقوبات الجسدية، اي شبيه بمبدأ الدية الذي كان موجودا في الجاهلية وأقره الإسلام وأحسن تنظيمه, وبما يقترب كثيراً من تصورنا الحديث للتعويض المدني ومن التقنيات القانونية الحديثة. وهذا ما نلمسه كذلك في مواد عديدة أخرى مماثلة (مثلاً المواد من 206 الى 220).
أما النص الخامس والأخير الذي أشير اليه هنا كنموذج للأحكام العديدة المتطورة في شريعة حمورابي ما نصت عليه المادة (168) التي جاء فيها عدم حق الأب في أن يحرم إبنه من الأرث إذا ثبت أن الإبن لم يقترف ذنباً يبيح هذا الحرمان. وهذا بلا شك يمثل خطوة متقدمة وتعتبر احدى مظاهرالحرص على حماية الأبناء من تحكم الآباء, وهي من المؤشرات الحضارية المهمة في زمن كانت السلطة الأبوية المستبدة هي السائدة وما زالت مع الأسف موجودة في كثير من فصائل مجتمعنا.
وقد دعى ما سبق أن ذكرناه العديد من علماء التاريخ والآثار في أوربا وأنحاء أخرى من العالم الى الإشادة بالأحكام المتطورة في القوانين العراقية القديمة. ومن ذلك تأكيد المؤرخ الأمريكي صموئيل نوح كرومر بأن العدالة كانت رائد التشريع في سومر وكل أنحاء بلاد الرافدين.
وإذا كنا نفاخر الآن بحقوق مدنية تحققت في العصر الحديث, فإنها في الحقيقة كانت موجودة عند أجدادنا قبل أربعة آلاف سنة ولكنها زالت واضطرت البشرية الى تحمل المشقة والنضال الطويل لتعيد تعلمها من جديد.
وهكذا يتبين أن روح العدالة التي تُستخلص من أحكام شريعة حمورابي قياساً على ذلك العصر, وحتى من منظور مفاهيمنا الحديثة, تدل على مدى الإرتقاء الحضاري في القوانين العراقية القديمة ودورها في بناء الحضارة الإنسانية.
أن العراقيين أولى بتراثهم وهذا ما يعطي شبابنا دفعة معنوية قوية ليرفعوا بثقة رسالة الحق والعدالة التي ورثوها عن أجدادهم. وهذا يستدعي من الجميع توحيد الصفوف وتدعيم الجهود الرامية الى تثبيت سلطة القانون وتحقيق الأمن والنظام في كل أنحاء البلاد، وهو بلا شك يعتبر أيضاً من عوامل الإستقرار الدولي.

(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس
e-mail: tanik33@hotmail,com

 

معكم هو مشروع تطوعي مستقل ، بحاجة إلى مساعدتكم ودعمكم لاجل استمراره ، فبدعمه سنوياً بمبلغ 10 دولارات أو اكثر حسب الامكانية نضمن استمراره. فالقاعدة الأساسية لادامة عملنا التطوعي ولضمان استقلاليته سياسياً هي استقلاله مادياً. بدعمكم المالي تقدمون مساهمة مهمة بتقوية قاعدتنا واستمرارنا على رفض استلام أي أنواع من الدعم من أي نظام أو مؤسسة. يمكنكم التبرع مباشرة بواسطة الكريدت كارد او عبر الباي بال.

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  

  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
  •  
©2025 جميع حقوق الطبع محفوظة ©2025 Copyright, All Rights Reserved