نظام عالمي جديد يتشكل غايته أن يرسم لنا خارطة جديدة ودساتير جديدة تحمل كل ما تطمح له القوى العالمية والاقليمية، وعلينا نحن ان نسابق الزمن ونضع صياغة عصرية جديدة لتراثنا ولمستقبل تشريعاتنا حتى لا ندع الاخرين يقرروا نيابة عنا، يوم لا ينفع الندم.
لا... وألف لا...، علينا أن نثبت أن خصوبة الشريعة ومرونة أحكامها ضمانة لنا لنضع روائع الأحكام التفصيلية التي تواكب المدنية الحديثة ومتطلبات العصر، لنستعيد أمجادنا مع الاحتفاظ بثوابت الاحكام والنصوص القطعية التي لا تقبل الجدل.
خير أمة أخرجت للناس... ما أروع هذا الوصف والتصوير، ولكن أين نحن من هذه الصورة؟
نحن أولى من الاخرين في التوازن في القوانين المعاصرة العادلة، لقد تميزت الشريعة بأنها شريعة نامية حية بأصولها .
وفي العصر الحديث كان لا بد من بذل جهوداً أكثر لأجل مواكبة العصر والاستفادة من التقنيات القانونية الحديثة ومرونة الشريعة وقابليتها للاستجابة لمتطلبات العصر في حدود العدل والحقوق الانسانية.
وأثبتت تجاربنا الحديثة في حوار الحضارات بأننا قادرون على مشاركة المجتمعات الغربية التي نعيش فيها في إرساء دعائم العدل والتعايش السلمي بين الثقافات, حماية المرأة من العنف.
وقد دللت مجلة الأحكام العدلية التي أصدرتها الدولة العثمانية عام 1867 لتنظيم مختلف المعاملات كالبيوع وغيرها، على ما لفقه الشريعة من مرونة وتقبل للمعاصرة وقابلية للتقنين"، وشكلت أساسًا في تشريعات قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين في عدد من الدول كالعراق ومصر وسوريا ولبنان .
وأن البعض من المفكرين والمسئولين يتحدث بحماس عن التعاليم السمحة لدى العرب والمسلمين، ومنهم من أكد على "الدور الثقافي المهم الذي قدموه للحضارة الإنسانية" ودعا الى "تحفيز العلماء والمثقفين لتحديد الأفكار والحكم التي تشجع على العمل بالانسجام مع الطبيعة "(الأمير تشارلس ولي العهد البريطاني في خطابات له في جامعة أكسفورد).
أن العصور الذهبية من حضارتنا تحققت ليس بفعل السيف وانما بالعلم ومرونة الفكر لمواجهة اتساع رقعة الدولة واختلاف ثقافة أبنائها.
جاءت أكثر أحكام القرآن مجملة تشير الى مقاصد التشريع وقواعده الكلية، وتدع للمجتهدين مجال الفهم والاستنباط على ضوء ذلك، وهذا من ضرورة دوام الشريعة باختلاف الأزمنة والأمكنة .
ومن ذلك تنظيم القضاء، وهو من أهم جوانب الحكم وأهم السلطات في الدولة. حيث نجد أن القرآن الكريم قد قرر في هذا المجال مبدأين فقط هما من أهم المبادئ الأساسية لأي مجتمع انساني متحضر، وترك لنا المرونة في اختيار الأحكام التفصيلية :
المبدأ الأول هو ضرورة عرض ما ينشأ من منازعات بين الناس على الحاكم (ولي الأمر)، "فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكمونك فيما شجر بينهم ..." (النساء/ آية 65),
والمبدأ الثاني هو إلزام الدولة بمراعاة العدالة المطلقة عند الفصل في المنازعات، فقال الله تعالى "إنا أنزلنا اليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيماً" (النساء/ آية 105).
وفيما عدا ذلك فلكل دولة أن تختار التفاصيل، كأنواع المحاكم ودرجات التقاضي وأنواع الدعاوى واجراءات المحاكمة وتنفيذ الأحكام القضائية، وذلك حسب أوضاع كل عصر ومكان .
الذي ينقصنا اليوم هو الآليات القانونية والصياغات الحديثة والفعالة التي صممت من أجل حماية المجتمع ومسايرة التطور.
وقد أصبح اليوم استخدام القانون وقيم العدالة كأداة للتغيير الاجتماعي والتحالف بين الحضارات مبدأً من مبادئ القانون الدولي .
في هذا الاطار نجد أنفسنا كعرب ومسلمين أكثر الجاليات قدرة على الانسجام مع التشريعات العادلة وحقوق الانسان، بل نحن أولى من غيرنا بها لأن العدل والإنسانية هي من صميم معتقداتنا الأساسية ..
والآن تتقاسم كافة الثقافات القيم الأخلاقية العادلة والمتحضرة، وأن" حقوق الإنسان والحقوق المدنية ليست حكرا على الغرب، فهذا الاعتقاد يعزل الغرب عن مناطق العالم الأخرى"(يرغن ها برماس أحد أعلام الفلاسفة الألمان).
ولا يبقى للتقارب واحتواء العصبيات سوى حسن النية من جميع الأطراف، وتكوين مجتمعات متضامنة تتقابل فيها الحقوق والواجبات. وهذا دور النخبة من المفكرين والمصلحين ودعاة العدال .
(*) استاذ القانون العام والمقارن/ باريس