منذ زمن بعيد جذبت الآثار البابلية عشق الأوروبيون، وذلك بسحر الخيال عنها ولذكر بعضها في العهد القديم، وأدى هذا إلى سعي رواد الآثار لاكتشاف أسرارها ونقلها إلى بلادهم. وتعتبر الحدائق المعلقة، وبوابة عشتار، وشارع الموكب، ومسلة حمورابي، وأسد بابل، من أشهر هذه الآثار وذاع صداها في كل مكان.
ولذلك لا غرابة أن يحتضن متحف اللوفر مقتنيات أثرية قيمة من بابل، وخاصة 'مسلة حمورابي' التي هي نصب رائع من حجر الديورايت الملمع بارتفاع 8 أقدام نقش بإتقان بالغ ودونت عليه نصوص شريعة الملك البابلي الشهير 'حمورابي'، التي صدرت قبل أربعة آلاف سنة، وهي أول قانون في العالم.
ويستغرب كثير من الناس حينما يعرف بأن هذه المدونة، التي تعتبر من أهم كنوز اللوفر، لم يعثر عليها الفرنسيون في موقعها الأصلي بمدينة بابل، بل في حفائر مدينة 'سوسة'، عاصمة عيلام التي تبعد عن الموقع الأصلي بحوالي 300 كم، حيث كان قد نهبها ملك عيلامي (شوتروك ناخونته)، ونقلها من بابل الى عاصمته سوسة عام 1150 قبل الميلاد.
ومن حسن حظ أبناء الرافدين أن يرأس البعثة الفرنسية، التي نجحت في اكتشاف هذا الأثر القيم عام 1902، مهندس المناجم والجيولوجيا وعالم الآثار المعروف 'جاك دي مورغان Jacques De Morgan، الذي أتيحت له سابقاً ظروف جعلته قادراً على استثمار تأهيله وموهبته الخارقة في هذه المهمة. وقد تولى سابقاً إدارة الآثار في مصر، كما يرجع الفضل اليه في إنشاء القسم المعني بالتاريخ المبكر لبلاد الرافدين (سومر وأكاد) في اللوفر.
ولا نستغرب إذا ما علمنا بأن للفرنسيين دورا مهما في فك رموز الكتابة المسمارية الذي هو ينسب، كما هو معلوم، للعالم الإنكليزي 'هنري رولنسن' Rawlinson ، فإن البحث في ما تركه هذا العالم من أوراق وكتابات وآثار، كشف عن إسهام عدة علماء فرنسيين بارزين في تمهيد هذا الإنجاز. ونشير خاصة الى الباحثين الفرنسيين 'فلاندين' و'كوست' اللذين درسا صخرة بيستون Behistoun في جبال زاركروز في شمال غرب إيران ونسخا بعض الكتابات المسمارية التي نقشت عليها حوالي سنة 522 ق.م، عن انتصار داريوس الأول، والمدونة بثلاث لغات قديمة. ولكن تعذر عليهما نقل البقية لشبه استحالة اجتياز الشق الموجودة فيها الصخرة، حتى استطاع رولنسن، وبمساعدة صبي كردي جريء تطوع ودخل الشق، من أن يستنسخ البقية وينجح في فك الرموز.
وفيما يتعلق باكتشافات آثار السومريين في جنوب العراق، فإنها تعود الى علماء آثار بريطانيين وفرنسيين. وقد نالت المواقع الرئيسية لهذه الآثار القدر اللائق من اهتمام بعثات التنقيب الفرنسية، ومنها مدينة 'لجش' أقدم المدن السومرية، واسمها الحديث 'الهباء أو الهبة'، بقيادة 'أرنست دو سارزيك 'Ernest de Sarzec منذ بداية 1877، الذي كان نائب القنصل الفرنسي في ولاية البصرة ثم قنصلاً في بغداد.
إن القليل منا يعرف بأن دو سارزيك كان قد حصل في عام 1877م على الموافقة باجراء التنقيب من الوالي ناصر باشا زعيم عرب المنتفق، الذي كان يحكم المنطقة مستقلاً عن الدولة العثمانية مثل أكثر قبائل الجنوب آنذاك.
وسرعان ما توجه إلى تلال تلو الكبيرة حيث كانت قد اكتشفت ألواح وتماثيل متميزة لحكام لجش من صخر الديوريت، ومنها مجسم للأمير 'جوديا'، وقام بشحنها إلى باريس. وقد عثر في معبد مدينة لجش على آلاف الألواح الطينية المكتوبة بالخط المسماري، وهي تدل على اهمية المعابد لدى السومريين كمركز ديني واقتصادي واجتماعي.
وكانت الحماسة التي أثارها دو سارزيك شديدة بحيث أُنتخب عضواً في معهد فرنسا، واقتنى المجموعة متحف اللور إذ افتتح قسم شرقي جديد بإدارة ليون هوزي، واستطاع مواصلة التنقيب إلى ان توفي في عام 1901. وما تزال اكتشافاته إلى اليوم المصدر الرئيس لمعلوماتنا عن حضارة سومر القديمة، وقد أكمل المهمة من بعده الفرنسي كاستون كروس.
ومن المدن الأخرى نذكر مدينة 'كيش' التي تسمى أيضا بتل الأحيمر، وهي أول مدينة يتربع عليها ملك بعد الطوفان الكبير. وقام فريق فرنسي مختص في علم الآثار بقيادة هنري ديجينويلاك Henri de Genouillac بالتنقيب لأول مرة عن مدينة كيش بين عامي 1912 و1914 .
ولم تقتصر مظاهر الولع الفرنسي بحضارة الرافدين على بعثات التنقيب، بل تتجلى أيضاً بما ينشره متحف اللوفر والجامعات والمعاهد المتخصصة ودور النشر الكبيرة من وثائق وبحوث ودوريات تلقى رواجاً كبيراً، وما يتعلمه الطلاب في المدارس، إضافة الى ما تنظمه المؤسسات المعنية من عشرات المعارض والندوات. ولا يمكن أن ننسى دور منظمة اليونسكو ومعهد العالم العربي في باريس بهذا الصدد.
ومن جانب 'الشرعية'، فإن القليل يعلم بأن أغلب البعثات الأثرية كانت في الماضي تسعى الى إضفاء هذه الصفة على تنقيباتها ونقلها للآثار الى بلدانها، بالحصول على 'فرمانات' (مراسيم أو أذونات) من السلطة العثمانية أو السلطة الإيرانية بوسائل دبلوماسية أو بتبادل في المصالح٠
ونأمل استمرار التعاون مع العلماء والكتاب والفنانين الذين لديهم ولع بحضارتنا لكشف عظمتها وخفاياها وتبادل المعرفة معهم.
استاذ القانون العام والمقارن/ باريس