
المكان : قسم العمارة بكلية الهندسة بجامعة النجاح الوطنية في نابلس
الزمان /العام الدراسي 91/92
١-التعليم هنا يحكى عن الطالبة اروى من قرية عصيره الشمالية احدى قرى مدينة نابلس فى الضفة الغربية فى فلسطين المحتلة، وهى احد تلاميذى بقسم العمارة بجامعة النجاح الوطنية اثناء فترة الانتفاضة الاولى ضد الاحتلال الإسرائيلي حيث اغلاق المؤسسات، ومنع التجول، والانعزال عن العالم، وبذا يصعب العمل بمهنة التدريس، مما دفعنى ان استعمل أسلوب اخر خارج نطاق المنهج المقرر، والاستفادة من تقنيات وأفكار أستاذ علم التفكير أدوارد دو بونو، وكذللك مدرسة وزير الذكاء الفنزوللى ماتشادو الذى يقر بان الذكاء موجود لدى كل إنسان، ولكن الأهم هو كيف يمكن استثمارةه وتدريبه نحو الإبداع .
وكان لاسلوبي هذا أثره الواضح على طلبة السنه الاولى طيلة السنوات الدراسىيه حتى التخرج، وهم ( اى الطلبة ) يعتبرون أنفسهم افضل مجموعة تخرجت، لدرجة ان معظمهم تولى مهام مختلفة فى سوق العمل سواء فى المقاولات او العمل الاستشاري، او العمل الحر اللذى مارسته أروى فى عمل الديكور لأحد محلات الذهب فى نابلس العريقة بأسواقها المتنوعة .
٢ - الفصل الدراسي الاول
وصلت الى نابلس ثم الى الجامعه والتى من حسن الحظ تم رفع الإغلاق عنها، وقابلت رئيس القسم آنذاك الدكتور معتصم بعباع، واتفقنا ان ابداء التدريس لطلبة السنه الرابعة والمساهمة بمشروع التخرج، وكان عد الطلاب عشرة، وبدأت التعرف عليهم وعلى مستواهم العلمى وعلمت انهم كانوا يتلقون دروسهم فى المنازل خلال فترة الإغلاق مما يعنى ضعف المستوى العلمى لديهم، كما أننى لاحظت عدم تجاوبهم معى لتحضير التقرير الاولي لمشروعاتهم، بحجة عدم وجود مصادر علمية كافية فى المكتبة، أضافه الى عدم استعدادهم للعمل، وأحسست انهم يتوقعون منى ان أقوم بعمل التقارير الفنية اللازمه لمشروعاتهم، وهذا بالطبع غير وارد عندى شخصيا .
للأسف الشديد شعرت بالإحباط ولم استطع عمل اى شيء سوى الطلب من رئيس القسم إعفائي ونقلى الى طلبة السنة الاولى لعلي أكون اكثر إفادة لهم، وبالفعل تمت الموافقة على طلبى لتدريس مادة Graphic design 2 ابتداءا من الفصل الدراسي الثانى .
٣ - الفصل الدراسي الثانى
تعرفت على الطلبه البالغ عددهم عشرون نصفهم بنات تقريبا، وسألت بعضهم عن اللوحات اللتى رسموها لمادة Graphic Design 1 فى الفصل الدراسي الاول، وعرفت انها عشرة لوحات وطلبت أحضارها الحصة القادمة، ومن خلال التعرف عليهم اكتشفت ان معظمهم دخل قسم العمارة لانه لم يجد مكاناً فى الجامعة سوى هذا المكان، وهناك ثلاثة دخلوا بواسطة احد أعضاء مجلس الأمناء، تلك هى الحقيقة المرّة، وهنا تذكرت طلبة سنه رابعة الذين من وجهة نظرى لا يصلحون ان يكونوا رسامين فى اى مكتب هندسي .
وفى هذة اللحظة أخذت على عاتقى ان ابدأ بتدريبهم على استعمال عقولهم نحو التفكير لاختيار افضل المعلومات للإبداع ، وتوجهت نحو السبورة لأكتب عليها بخط واضح ( انا مهندس معمارى )، بعد ذللك طلبت من احد الطلبه ان يقرأها، وإذا به يقرأوها بصوت منخفض وعلى استحياء، فسألته لمذا انت مستحى الا تريد ان تكون مهندسا معماريا، قال بلا، فقلت له إذاً، قلها بصوت عال ففعل . وهنا طلبت من الجميع ان يقولوها بصوت مرتفع وعال جدا اكثر من مرة، لماذا ؟ لانى اريد ان يسجلها العقل الباطن فى أدمغتهم لتصبح حقيقه، ثم طلبت من كل واحد ان يسجلها فى كراسته وان يكتبها على ورقة بخط سميك ويعلقها فى غرفة نومه ليراها كل صباح...
وكان هذا هو الدرس الاول
٤- التدريب على الإبداع
وفى الحصة الثانية كتبت رأسا على السبورة ( انا مهندس معماري ناجح جدا ) وقرأناها سويا بصوت عال جدا، وقلت لهم اتريدون ان تكونوا رسامين ام مهندسين ناجحين يشار لهم بالبنان، وعليكم الاجتهاد والعمل الجاد فوافقونى على ذالك، وبعدها طلبت من احد الطلبة ان يعلق على السبورة لوحاته العشرة اللتى رسموها فى الفصل الدراسي السابق، ويشرح كل لوحة، بعدها طلبت منهم ان يرسموا اللوحات العشرة فى لوحة واحدة، وطلبت ان يبرز كل واحد شخصيته بالطريقة التى يراها . وصادف هذا الواجب عطلة الأسبوع ليحضروها الحصة القادمة، كما طلبت منهم ان يسجل كل واحد عدد الساعات اللتى مضاها فى العمل .
لقد أردت من هذا التمرين تدريب الطلبة على استعمال الدماغ الأيمن ( الخلق والإبداع ) والذى يتولى عملية اختيار او انتقاء المعلومات الموجودة فى الدماغ الأيسر ( الذاكرة ) لتحقيق هدف الإبداع فى لوحة واحده .
٥- مجهود رائع
فى الحصه الثالثة حضر الجميع ومعهم واجبهم الذى استغرق ثلاثين ساعة عمل تقريبا، وخلال الحصه قام كل طالب بشرح لوحته، وهى بالفعل تعبر عن فهمه للمعلومات السابقة وتطويعها فى معلومة واحده، النتاج مذهل وان رسالتى نجحت فى بث روح العمل
٦ - الرسم بالألوان
كما لفتت نظري احدى الطالبات تدعى اروى من قرية عصيرة الشمالية احدى قرى نابلس، هذة الطالبة هى الوحيده التى رسمت لوحتها بالألوان وبطريقة شبه بدائية، لكن كونها الوحيدة فلها ميزة عن الآخرين، فقلت لها انت ستكونىن ممتازة فى المستقبل وتشبهين المعماري العالمى لو كوربو زييه الذى كان يستعمل الألوان فى رسوماته للتوضيح ، وبعدها استمرت فى تقديم كل لوحاتها بالألوان، وحتى امتحان اخر السنه لم يخلو من ذالك. علاوة على انها بدأت تهتم بملابسها واناقتها وخاصة استعمال الاكسسوارات على الوسط وغيرها من أدوات الزينة .
٧- فن الكولاج
وبدأت بعدها بتنفيذ المنهج المقرر، وفى هذة الأثناء دعانى رئيس القسم الى مكتبه وقال لى هناك شكوى عليك من بعض الأساتذة فى القسم، وهى انك لا تدرس المنهج المقرر Graphic 2 بل تدرسهم فن الكولاج . وهنا وفى هذة اللحظة ضحكت وشرحت له بالتفصيل ما قمت به لتعليم وتدريب الطلبة على التفكير والإبداع بدلا من الحفظ وحشو المعلومات، فسر سروره وقال هؤلاء المغرضين لا يزالوا ( حمير)، اكمل مشوارك يا اخ صبحى وانا أشجعك .
٨ - كلية الطب فى صنعاء
واستمريت فى تعليم المساق المقرر، وكنت بين الفينة والفينة أوزع عليهم بعض المشاريع التى شاركت فيها اثناء وجودي فى الكويت واشرح لهم بطريقة مبسطه مكونات المشروع ، وكان من ضمن المشاريع كلية الطب فى صنعاء، واذكر انهم قالوا لى ان لديهم دعوه لزيارة اليمن فشجعتهم على زيارة كليه الطب التى كنت مسؤولا عنها ايام عملي فى الكويت كنائب لرئيس المهندسين، وصادف بعدها ان زرت اليمن وعلمت من رئيس قسم العماره بجامعة صنعاء بان طلبة قسم العمارة بجامعة النجاح طلبوا فور وصولهم زيارة كلية الطب التى حدثتهم عنها، وذكروا اسمك أمامنا، حتى انهم طلبوا الاطلاع على المخططات وتم لهم ذللك، انها صدفه مفيدة ساهمت فى ان يتعلموا على الطبيعة نموذجا معماريا ناجحا .
٩ - تكملة المشوار
اكملت مشوارى حتى نهاية السنة وفق المنهج المقرر، وكان الامتحان النهائي مميزا يشمل كل انواع الرسم الهندسي ورسم المنظور والتفكير والنظافة والترتيب الخ ...
١٠- تبادل الهدايا
هؤلاء الطلبةالمعزولين عن العالم قدموا لى هدية رمزية لشعورهم بقدراتى على تعليمهم وتشجيعهم بأسلوب لم يشهده احد من قبل، وكان وداعا حارا تخلله توزيع الكنافة النابلسيه المشهورة، وقمت بتوزيع كتاب لكل طالب من الكتب التى احضرتها معى من مونتريال وكتبت على صفحة الغلاف الثانية أهمية الاستمرار فى العلم والبحث لصالح أنفسهم وصالح العمارة ممهورة بتوقيعى وعنوانى فى كندا.
١١- العودة الى مونتريال
عدنا الى مونتريال ، وهناك وجدت نفسى امام مرحله جديدة للدراسات العليا فى علوم البناء بجامعة كونكورديا، وكانت مرحلة ممتعة وصعبة كونها تعتمد على الرياضيات لكننى لم أضع أية عوائق على نفسي واستمريت الى ان حصلت على درجة الماجستير .
١٢- العمارة الخضراء
اثناء الدراسة حضرت ندوة عن العمارة الخضراء للمهندس المعمارى نل لارسون بجامعة ميجيل وهو اول من اثبت ان صناعة البناء تستهلك اكثر من نصف اجمالى الطاقة، واقترح اعادة النظر فى تصميم الغلاف الخارجى لتقليل الهروب الحرارى، وتأثرت بالأفكار والمبادىء المطروحه كونها لصالح الانسان والبيئة معا، وتابعت معه حضور ورشة عمل فى جامعة بريتش كولومبيا ساعدتنى ان اتبنى هذة الفكرة فى بلادنا العربية، وحصلت بعدها على عرض عمل مع UNDP للعمل كاستشاري للعمارة الخضراء مع بلدية نابلس الا ان مسؤوليها آنذاك لم يعطوها اى اهتمام بحجة عدم زيادة المشاكل عليهم آنذاك وكان المستقبل الأفضل للتطور العمرانى لا تعنيهم .
١٣ - المفاجئة الساره
بعد إتمام إجراءات التعاقد مع TOKTEN لمدة ثلاثة شهور، سافرت انا وزوجتى الى نابلس وتم ترتيب سكن مناسب لنا بمنطقة المخفية، وبينما نحن نتسوق وسط المدينة العريقه وإذا بإحدى المهندسات تخرج بسرعه من احدى الدكاكين التجارية وتتجه نحونا وتسلم علينا وتقدم نفسها بأنها اروى احدى تلاميذى فى الجامعه، وقالت انها تعمل مهندسة ديكور لأحد محلات الذهب المشهورة، وسألتها عن باقى الزملاء فقالت نحن افضل دفعة تخرجت بالجامعة وذالك بفضل توجيهاتك لنا ايام سنة أولى ...
١٤- عزومة اروى
فى اليوم التالى ذهبنا الى بلدتها عصيرة الشماليه، وكانت اول عزومة لنا خلال اول ٤٨ ساعة من وصولنا مدينة نابلس، ووصلنا بيت اروى التى استقبلتنا هى ووالدتها بحفاوة بالغة، وكرمهما الحاتمى، وكان الغذاء أكلة عكوب نابلسية رائعة .
وبعد الغذاء وأثناء شرب القهوة العربيه جاءت أروي بكتاب كنت قد أهديته لها وعنوانه "التخطيط فى المدن الحارة"، وقالت انها تقوم ألان بدراسة الماجستير فى تخطيط المدن على ضوء هذا الكتاب، انها لحظة شعرت فيها بفخر واعتزاز لأقول بان "من زرع الفكر حصد الإبداع " .
تلك هى قصتى مع التعليم المعماري في فلسطين المحتلة
أمل ان تنال إعجابكم
مونتريال
١٥ ديسمبر ٢٠١٣